محمد فؤاد قنديل – مراسلون 24
يلاحظ أن بعض الأبواب الأندلسية العتيقة تحمل في أعلاها يمينا أو يسارا على الباب الإطار الذي يتوسطه الباب الرئيسي، علامة أو رمز على شكل شوكة حديدية بسنان حادة. و كثير منا يعتبر ذلك مجرد أكسسوار للزينة يؤثت أعلى أبواب المنازل. ولكن دورها في الواقع ينطوي على حمولة تاريخية عميقة، ويؤرخ لوقاءع وأحداث مرتبطة بتنظيم المجتمع والعلاقات الأسرية آنذاك، في سياق تاريخي له خلفيات ذات علاقة بالجدور والأعراق والأنساب، وما لذلك من أدوار محورية في ترتيب وتنظيم المجتمع.
فالباب في ثقافتنا يجسد حاجزا يفصل بين داخل وخارج المنزل، ويخفي مشاعر وأسرار وأحداث “قاع” الدار، وعلاقات أسرية لا تنكشف بكل تفاصيلها على العالم الخارجي. وهو درع يحمي هذا الجسد من كل خطر محدق قد يأتي من الخارج. ولو تأملنا الدروع الحربية التي يحتمي خلفها المحارب، لوجدنا بعضها يحمل تلك المسامير الحديدية المطروزة بعناية على باب الدار. فالباب الخشبي هو الدرع الواقي من كل شر.
والحديث عن قصة تلك الشوكة وانسجامها مع مسامير بارزة تطرز بها الواجهة الخشبية للمنازل، وتؤثت مع دقاقة أو خرصة على شكل” خميسة” تطرد العين الحاسدة، ودقاقة أكبر حجما على شكل حلقة أو صفيحة تتوسط أعلى الباب، في هندسة جميلة متناسقة، يدفعنا للرجوع إلى فترة حكم المسلمين بالأندلس، وانقسامهم في دويلات صغيرة تسمى الطوائف ، بلغت إثنا وعشرون طائفة متناحرة، ضعفت قوتهم وفتحت الطريق نحو طردهم مع اليهود إلى ما وراء البحر الأبيض المتوسط. ومن هذه الطوائف من استعان بالعدو ضد أخيه.
وعند قدوم الأسر المهجرة قسرا من جهات متفرقة من الأندلس، نحو بعض مناطق المغرب، ومن بينها سلا والرباط، ظلت رواسب تلك التطاحنات بين الوافدين قائمة. وكان أسلوب عيشهم مختلفا باختلاف مراكز قدومهم، خصوصا ما يتعلق بطقوس ممارسة شعائرهم. كما كانت لهجاتهم تبدو غريبة، وبالتالي كان التحامهم في تجمعات بشرية تنتسب لنفس المدن والقرى التي قدموا منها أمرا حتميا، حيث كانوا يتقاسمون نفس اللغة أو اللهجة، ونفس العادات والتقاليد. ومن تم الاحتماء في تكثلات عرقية تشكل قوة جماعية مما يتطلب تدابير تنظيمية، منها خلق بطائق تعريف للأسر، تيسر التعارف بين الناس وتسهل المصاهرة والتزاوج بين الأسر. وتقوي أدوارهم داخل المحتمع، وتفرض أفكارهم، وكل السبل للدفاع عن مصالحهم.
وهكذا فالشوكة الحديدية بسنان حادة، يختلف شكل سنانها باختلاف مراكز قدوم المهجرين إلى المغرب. فبعضها يحمل سنين أو ثلاثة، وآخر يحمل خمسة…وبذلك يسهل الاندماج وتشكيل قوة موحدة، والتعايش والانصهار والجوار في مجتمعات منسجمة بطباع مألوفة، بعيدا عن الخطر المحدق القادم من عدو مرتقب، هناك على الضفة الأخرى، أو من عدو بالجوار .
كما أن الدقاقة أو الخرصة الكبيرة في أعلى الباب يطرقها الرجال وكل قادم غريب، ويعلمها من بالدار، فيهيء ظروف الاستقبال” للبراني” أو الرجل. بينما الدقاقة أو الخرصة على شكل خميسة، مخصصة للأهل والأقارب والنساء، وبالتالي فسماع صوت طرقاتها يعلم بجنس ونوع القادم القريب الذي لا يتطلب في الغالب استقباله جهدا إضافيا.
للأسف فكثير من تلك الأبواب يتم إصلاحها وترميمها، ولكن الجهل بتاريخ وقيمة تلك الرموز ودلالاتها، يجعلها عرضة للتلف، وبتلفها تطمس ذاكرة أماكن وأزمنة شكلت تاريخا مجيدا للأجداد.