مغرب الذاكرة نصف قرن من البناء الديمقراطي والخصوصية المغربي.

بقلم/ محمد العايدي الإدريسي

تمثل الفترة الممتدة ما بين 1976 و2026 محطةً مفصلية في التاريخ السياسي المغربي، إذ تبلورت خلالها ملامح الممارسة الديمقراطية الوطنية في تدرجٍ هادئ ومسؤول. وللوقوف عند هذا المسار، لا بد من استحضار عبقرية ملكين ساهما في ترسيخ مسار الحكمة والتدرّج، وضَمِنا استمرارية العرش في صيرورةٍ تاريخيةٍ فريدةٍ لأقدم ملكيةٍ في العالم.
الديمقراطية في المغرب ليست استنساخًا لتجارب الآخرين، بل ثمرة وعيٍ وطنيٍ تدرّج في النضج، واستمدّ قوته من خصوصيةٍ مغربيةٍ فريدة. منذ فجر الاستقلال، اختار المغرب طريقًا خاصًا في بناء الدولة الحديثة؛ طريقًا يستلهم من تاريخه العريق، وهويته الإسلامية، وروحه الإفريقية والمتوسطية. لم تكن الديمقراطية شعارًا مقلدًا، بل مسارًا مغربيًا أصيلًا تشكّل بالتدرّج والتجربة والمصالحة، يجمع بين الأصالة والحداثة، وبين ثوابت الأمة وروح العصر.

هذه الخصوصية ميّزت المغرب عن محيطٍ عربيٍ عاش الانقلابات والاضطرابات، وعن إفريقيا التي أغرقها التوجه الإيديولوجي في التخلف. في حين آثر المغرب الإصلاح الهادئ على الثورة، والمصالحة على القطيعة، والواقعية على المغامرة. ومن هنا جاءت تجربة نصف قرنٍ من الممارسة الديمقراطية كمسارٍ وطنيٍ متفرّد، لا يُقاس بنماذج الآخرين، بل بتراكماته وإبداعه، وبكبواته وإخفاقاته في التكيّف مع زمنه. كانت سنوات الستينيات والسبعينيات مرحلة دقيقة في تاريخ المغرب المستقل، حيث سادت التوترات السياسية وحالة الاستثناء، لكنها كانت أيضًا مَخاض وعيٍ جماعيٍ جديد مهّد لبناء الدولة الحديثة. ثم جاءت المسيرة الخضراء سنة 1975، فلم تكن فقط خطوة لتحرير الأرض واستكمال الوحدة الترابية، بل كانت أيضًا ملحمة لتجديد الوعي الوطني حين توحّد العرش والشعب في جبهةٍ واحدةٍ، وأدرك المغاربة أن قوة الوطن في جبهته ووحدته الداخلية.

ومن رحم تلك اللحظة، انطلقت سنة 1976 أولى لبنات المسلسل الديمقراطي المغربي، مع التجربة الجماعية الأولى التي دشّنت مرحلة جديدة من المشاركة السياسية وأعادت الثقة تدريجيًا بين الدولة والقوى الوطنية. لا يمكن الحديث عن الديمقراطية المغربية دون التوقف عند الملك الحسن الثاني، الذي أرسى ما سمّاه الراحل مولاي أحمد العلوي بـ«الديمقراطية الحسنية»، كصيغة سياسية مغربية متفرّدة في المنطقة العربية. في زمنٍ كانت فيه أغلب الأنظمة العربية منغلقة أو عسكرية، اختار الملك الحسن الثاني نهجًا وسطًا: ملكية دستورية ذات طابع مغربي، تجمع بين الشرعية التاريخية والتعددية السياسية المؤطرة، وبين هيبة الدولة والانفتاح التدريجي على الإصلاح.

لقد آمن الملك الحسن الثاني بأن التحوّل لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى بالحكمة والصبر، وأن الديمقراطية لا تُستورد جاهزة بل تنبت من تربة المجتمع. فكانت الديمقراطية الحسنية تجربة إصلاحٍ متدرّجٍ حافظت على الاستقرار، وجعلت المغرب استثناءً عربيًا في الجمع بين التعدد السياسي ووحدة الدولة واستمرار مؤسساتها الدستورية.

إن الخصوصية المغربية في الحكم لا تتجلى فقط في بنية الدولة، بل في البيعة الشرعية التي تربط العرش بالشعب، والتي تمثل رباطًا روحيًا عميقًا يحفظ التوازن بين السلطة والشرعية، بين القيادة والثقة. لقد ميّز الله المغرب بنعمة الحكمة في قيادته، إذ ينطبق على ملكه قول الحق سبحانه: «ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا». وبفضل هذه الحكمة المتوارثة والمتجدّدة، نجا المغرب من صداماتٍ كانت كفيلة بتمزيق دولٍ كثيرة. فقد كانت الملكية المغربية واسطة العقد التي جمعت أطراف الوطن حولها، وجعلت من الاستقرار ثقافةً جماعيةً لا ظرفًا سياسيًا عابرًا. ومن أبرز تجليات هذه الحكمة تنزيل دستور 2011، الذي جاء في سياقٍ إقليميٍ متوتر، لكنه نزل على المغرب بردًا وسلامًا، ليُجدد الثقة بين الدولة والمجتمع، ويؤسس لمرحلة جديدة من الحكامة الديمقراطية الرصينة. لقد كنا – ولا زلنا – أمةً متماسكةً بعبقرية ملكها ووعي شعبها، تستمد قوتها من الشرعية وتتقدم بالحكمة، وتؤمن بأن القيادة الراشدة حصن الديمقراطية وضمان استمرارها.

مع عهد الملك محمد السادس، انطلقت صفحة جديدة من الإصلاح العميق، عنوانها الانفتاح والتنمية والتجديد المؤسسي. تشبيب الأطر الوطنية، توسيع الحريات، والانفتاح الدولي جعل المغرب فاعلًا استراتيجيًا في محيطه الإقليمي والدولي. في ظل الطفرة المحمدية المباركة، أثبت المغرب أن التنمية ليست أرقامًا فقط، بل رؤية متكاملة تجمع بين الاقتصاد والإنسان، وبين الحداثة والهوية. بعد نصف قرنٍ من الممارسة الديمقراطية، ليس المغرب في حاجة إلى محاكمة التجربة، بل إلى تثمين بُعد نظر ملكين جنّبا البلاد العديد من الهزّات، ووفاقٍ وطنيٍ جامع يعيد قراءة هذا المسار بروحٍ من التقدير والنقد البنّاء.

فما تحقق خلال خمسين سنة من التحولات الدستورية والتنموية لا يمكن أن يُختزل في محاسبة، بل في تقييمٍ يفتح آفاق التجديد والمصالحة بين الذاكرة والتطلّع، بين النقد والأمل، وبين ممارسةٍ سياسيةٍ حزبيةٍ تقطع مع تجربة تقديس الزعماء والأوليغارشية في القيادة بمنطق الديمقراطية، لتؤسس لممارسةٍ تتسع لكل شبيبة الوطن، وكل أطيافه، وجيل “Z” و”Alpha”، وما يليه من متغيرات نهاية القرن. فالمغرب الغد وشباب الغد لا يتوفرون على اللوغاريتمات لقراءة ممارسةٍ وُلدت ميتة، لأن المستقبل لا يُبنى بالرموز الجامدة بل بالعقول الحرة والمبادرات الخلّاقة. وهذه هي قوة المغرب: في قدرته على تطوير نظام الحكم، وهو مقبلٌ على جهوية موسّعة وتدبيرٍ ترابيٍّ مجالي، من أجل مغربٍ متماسكٍ وقوي، ورائدٍ في محيطه الإقليمي والدولي. هذا التدرّج والنضج كفيلان بتموقع ديمقراطيةٍ راقيةٍ، قادرةٍ على مواكبة التحولات، وتعزيز النموذج المغربي في التحديث السياسي والحكامة الرشيدة.

**بقلم: سيدي محمد العايدي الإدريسي
باحث في الفكر السياسي وقضايا التنمية المجالية – نوفمبر 2025