محمد فؤاد قنديل
ساقتني الأقدار وزوجتي لأوقات تكالب فيها الزمان علينا. أمسينا ثلاث ليال مسبوتين كالعليل المُلقى، وزوجتي تفور ثورة وتستشيط غيضا. لا مندوحة لها في ورطة غير محسودة عليها، وما لنا إلا الصبر. .
كان “با المعطي” قد قطع الوعد أن يكون سفرنا على بساط ريح جميل ومريح. تصطحبني فيه رحالي إلى زرقة السماء تنشد بين النجوم قصص ذكريات سفر يفوح طيبا بين زوجين أرغما بلا خيار على امتطاء وسيلة قفول رديئة بعد عطلة صيفية جميلة، لتعذر وسائل نقل معتبرة ذات فاتح غشت من سنة 2006.
استخلص”با المعطي” ثمن تسعيرة نقل حددها في مائة يورو، لرحلة روتينية تستمر لليلة ونهار. طال انتظارنا ست ساعات، رأيت فيها وجوها مألوفة عند بعضها، اعتادت العودة إلى أرض الوطن في كذا ظروف. وقد شدني ما تحمل في متاعها من متلاشيات غريبة. ظل “با المعطي” يوثقها بحباله على سطح الحافلة لتشكل طبقات متاع تعلو المترين.
أشفقت من جَلَد الرجل الذي يحمل كل هذه الأثقال، وقد بدت علامات التشيُّخ تلوح خطوطا وثنيات على جسده. لا شك أنه خبر دنياه تجاربا وعِبر. أطلقنا السواعد لنمُد يد العون. أنهكني التعب وأضناني من فرط مدِّ الأشياء الغريبة. بلغ سيلي زباه ب”كابينة” مستعملة يحملها مسافر حتى يعكر صفو رحلتنا. مرحاض مستعمل مقزز المنظر، جعلني رازحا تحت عبء التفكير العميق. كيف سيبدو الركب من بعيد، ونحن نتكدس في ترام “با المعطي” أسوأ ما يتكدس السردين في العلب، وعلى رؤوسنا مرحاض قرفصاء بسيطة، تحتها أضحينا جردانا في قواديس نثنة، نتلطخ بما لفظته أمعاء من استقروا فوق عرشها عبر السنين. ألوكُ كلماتي متلجلجا أحكي باحتشام فرط غفلتي، وقدماي تغوصان في موحل لا يُتخلص منه.
أطلقت “الفركونيط” المتهالكة عنانها عند منتصف الليل، تشق السبيل من مرسيليا قَاصدة سلا. استرقت آخر نظراتي لفضاء تركت فيه ذكريات جميلة تتراقص صفحاتها متطايرة على إيقاع نغم حزين يعزف نشيد الوداع.
أخذت مقعدي عند شرفة النافذة، مددت عنقي، أقتفي أثر جدي المخطوط أثره في كراس”قراصنة سلا”. فطنت عند صفحة من أرقامه اشتقاق أصولي من مارسيليا. هنا بسواحلها كان سلف صالح يقود سفينة “لا ماري فرانسواز” ذات زمان من القرن سابع عشر.
انطلقت الناقلة تتمايل كالناقة، تنفث دخانا أسودا من عادمها، بخاخاتها متسخة ومقاعدها عفنة. عجلاتها المضغوطة تئن من حِمل لا طاقة لها به. نتراقص في مقاعدنا الضيقة في ازدحام رقصة الديك المحتضر. “مي فاطنة” بقفتها المملوءة بالأدوية، كأنها ترحًل صيدلية بأكملها. “با أحمد” الرجل الوقور الطيب، بسلة تحمل شتى أنواع الطبخ، دجاج ولحم وكفتة مشوية يكفي لتغدية دوار. لعله فَقِه برحلة ستطول. عشنا مع قفشاته أحلى الأوقات. ولم يتوان في نصحنا بحسن التعامل والتدبر مع “با المعطي”. فهمنا أن سائقنا ذو مزاج حاد، لا يقبل لغوا أو ردة فعل، فمنطوق كلامه لا بد أن يسود، لأنه الناهي والمنتهي.
أدركت أنني في ورطة. فقد استغواني”الشيفور” متغزلا بغمزة امتلأ لِحاظُها فتونا. استمالني بابتسامة خادعة فأضلني، ثم أُورط جريرا في عنقي، أحكم وثاقه وجدبه فانحصر حلْقي لتنكشف عيْنه الناتئة الحدقة.
تنبأت بمناطحة كباش وشيكة مع هذا العنيد، لأقهر فيه الطغيان الذي يفور منه قمعا وديكتاتورية، أنا العاشق للحرية والانعتاق من أذناب الظلم والاستبداد. استغفرت خالقي لسوء نية غير مشفوعة ترصدت بها رجلا لم يبد أي سوء. بل أراه يخلق أجواءا مرحة داخل الحافلة، بإذاعته المتكررة لأغنيته المفضلة “شيفورك يا حليمة ودَّاو ليه لا كريما، قلبو المالا لقاوها عامرة بنات”. أغنية عميقة، غير أنها تلزمني بتجديد الوضوء كلما دخل وقت الصلاة.
قطعنا مسافة تسعين كيلومترا، حين رن هاتف”با المعطي”، ضرب بمعصمه المقود، خفف السير وقفل راجعا دون شرح السبب.
علت الأصوات وبحت الحناجر، و “با المعطي” لا يجيب. لا بد أنه في قلق لأمر أجزأه وكفاه عن إبداء لباقة واجبة، تُشعر الجمع بكرامة وإحساس أنهم ليسوا قطيعا يساق على هوى”الشيفور” بدون استئذان.
علمنا أن سهوا في الشحن أخلف ميعاد حمل متاع ظل على أرصفة الطريق. الخير في ما اختاره الله، لعل في عودتنا كل الخير.
أذنت ليلتنا بالبلج، ونحن لم نتقدم خطوة. و النعاس يدب في عروق “با المعطي”، لا بد له من “غميضة”، فراحة السائق من راحة الرُّكاب. غط صاحبنا في سبات عميق فاق خمس ساعات. تُهنا خلالها في حيرة من أمرنا لاجئين في الشارع، مطرودين من مقاعدنا حتى يستريح راعي القطيع داخل الحافلة. الوقت بلغ الظهر، وطقوس”با المعطي” تتوزع بين وضوء طويل للصلاة، تستغرق تفاصيله أزيد من ساعة. بين تسخين ماء واستنجاء ووضوء وصلاة. بعدها حان وقت الغداء المقدس بمراسيم تحترم عادات الأكل. مقبلات محضرة بعناية، ثم وجبة رئيسية مشكَّلة. غير أن شرب القهوة المعهود يأخد من “با المعطي” وقتا مبالغا فيه. توثرت فيه الأعصاب. ليسرع السائق ملتحقا بمقوده منطلقا في رحلة بَطيئَةٍ، بعشرين ساعة تأخير.
غط المسافرون في نوم لم يدم ساعة، وسط حرارة جو مفرطة انعدم فيها طبعا مكيف الهواء. تكاثف دخان عادم الشاحنة، حتى انطفأ محرك السيارة. نقل “با المعطي” الخبر الحزين” المحرك أون بان”.
يبدو أن أوقاتا سوداء تنتظرنا. فقد توثرت الأعصاب، وأشتدت حمارة القيض تتعدى الأربعين درجة.والعياء يأخذ مأخذه من الراكبين إلا “با المعطي” الذي استرق استراحة مشروعة. دام وقت انتظار الميكانيكي وإصلاح المحرك حتى منتصف الليل.
استمر السير ليلة هادئة حتى صباح اليوم الموالي. لم يبخل خلالها “با المعطي” بإمتاعنا ومؤانستنا بأغنيته المحبوبة” شيفورك يا حليمة وودَّاو ليه لا كريما، قلبو المالا لقاوها عامرة بنات”.
بدأت روائح الجوارب النتنة تلوث الأجواء. أصبت بألم شديد في رأسي، وشعور بغثيان مزعجٌ، وحاجة ماسة إلى التَّقيُّؤ. أصابني دُوار وضباب في عيناي. أعلنت زوجتي حالة طوارىء، وتوقف الرَّكب لبعض الوقت في فضاء سوق أسبوعي شمال إسبانيا. بادرت بخطوة شخصية في تمويل نفقة شراء جوارب جديدة لكل الركاب. أقنعتهم بضرورة تنظيف جماعي للأقدام، ورمي الجوارب النتنة خارج الحافلة. نعمنا بأجواء تحفظ الصحة العامة. كان “با المعطي كالمعتاد ” باذخا” في اتحافنا بأغانيه المفضلة. التقطت من إحدى خالداته هذا الكلام العميق ” للي عندو الفيزا عندو لاشونص، وللي ما عندوش عايش فلاسوفرونص”…
بعد سفر على صفيح جهنم، بلغنا الديوانة عند منتصف الليل. كان “با المعطي” مجبرا على فك حبال كل المتاع الذي يحمل لتدابير تفتيش دقيق. قضينا ليلتنا الثانية البيضاء…ورحلتنا ما تزال تحمل طرائف الأمور.
-يتبع-