درب سيدي عبد الله بن حسون: منبت أهل الصلاح والفلاح

محمد فؤاد قنديل

تهفو النفس للحديث عن درب سيدي عبد الله بن حسون، حيث المشاعر الفياضة بذكريات الطفولة تمتزج بالنسائم الروحية لهذا الفضاء، وتتزاحم الافكار في الذهن. وكل ما سأذكره هو غيض من فيض. فإذا قيل” في سلا كل زنقة بولي صالح “فبدرب سيدي عبد الله بن حسون “كل شبر له قصة، وكل خطوة لها حكاية”. وكأن الدرب أبى الا أن ينفرد بحصة وافرة في اختزان التاريخ.

أقف مشدوها عند مدخل هذا الدرب العتيق، أقتفي أثر الصالحين، وأغرف من وميض نورهم، وفيض ذكرهم الوضاح بالنسائم والنفحات الربانية، أستلهم العبر من السلف الصالح. فعلى أجنحته استطاب مقام العلماء والفقهاء الذين عظم الله قدرهم وحض على توقيرهم. وعلى بساطه حط الرحال من كان زادهم العفاف والكفاف والطاعات الصالحات، والتطهر من الآثام والموبقات، من أولياء الله الصالحين، وعلماء ورعين، وأتقياء صوفيين. وبداخل هذه الدور العامرة بأهل الفضل والخير والصلاح، تتشرف عائلات سلاوية بالانتساب والخدمة لمن أنبت الله فيهم الرقائق الروحية والإشراقات الربانية وأسبغ عليهم الفضائل والمكرمات.
أمد بصري فتكلمني الجدران عن النور الوضاء الذي كان يشع من جيرها، ذات يوم من سنة 1851م،، طاردا تلبد السماء بغيوم دخان الكور والبنب التي تقصف ثغور سلا، بمدافع السفن الفرنسية الغاشمة المتسللة خلسة، والراسية في البحر قبالة المدينة. لقد هدمت يد الغدر الصومعة القديمة للمسجد الأعظم، التي كانت شامخة بالقرب من هذا الزقاق، وشمرت سواعد السلاويين لإعادة بناءها على بعد أمتار من قبر سيدي عبد الحليم الغماد بالجهة الشمالية من المسجد.

أراني أتصور خروج أهل هذا الدرب بمعية السلاويين الأشاوس، للدود عن الدين والملة والشرف، وتلقين العدو درسا في الكفاح. فلا شك أن حماة سلا مروا من هنا في صفوف متراصة، لقهر الغاشي، ثم عادوا إلى هنا ظافرين منتصرين، بعد أن أدلوا العدو الذي تراجع وهو يجر وراءه خيباته وويلاته. وأسمع زغاريد النساء المنبعث صداها من فوق سطوح منازل آل الحسوني وآل بنسعيد وآل عمار وآل الحصيني والدكالي والأحياء المجاورة تبارك النصر المبين. وهذا شاعر الملحون محمد بن لحسن ينشد(7)” ابن حسون آ فارس العناية سلطان سلا أنت وسيدي ابن عاشر حشى والله ابلادكم لا دخلوها كفار”.وأتصور نفسي في المشهد طفلا يلقي الورود على الوجوه من فوق سطح تلك الربوة الصامدة وسط الدرب، والتي تحتفظ بسرها.
عرفت مع مرور الزمان أن بالربوة قبر للولي الصالح سيدي الخراز. فازداد شغفي بلهفة لكشف مكنونه بالبحث والتمحيص، فوجدت ضالتي في كتاب الأستاذ عبد الله بنسعيد “سلا حديث الصورة” التي كتبت تقديمه الدكتورة نجاة المريني، ويحكي قصة مثيرة؛ ذلك أن إدارة الحماية الفرنسية حاولت تحويل القبر إلى مكان خارج الممر، في أطار شق الطرق والأزقة، فأمر الفرنسي المسؤول عن الأشغال بهدم القبر، وفي اليوم الموالي لتنفيذ المهمة، انتظروا رئيسهم فلم يأت. ثم علموا أنه قضى ليلته عادية، وعند الصباح وجد نفسه مشلولا. وبعد أخد ورد في الموضوع، صاح نائب رئيس الأشغال في العمال بأن لا محل للتطير في العمل، وعليهم تنفيذ الأوامر. فتناول عامل فأسا ورفعه للشروع في عملية الهدم، وعند إنزاله وقع الفأس على رجله فأصابه إصابة بالغة، صاح معها رافضا انتهاك حرمة المكان المقدس، وتبعه العمال الآخرون وهم يرددون: “التسليم لله يا سيدي الخراز”. وهكذا تخلت مصالح البلدية عن مشروعها، ثم بني فيما بعد حائط حول القبر (1). وحكي لي أن الحلاقة كانوا يضعون بجانبه خصلات شعر الزبائن؟!

غير بعيد عن المكان يوجد ضريح الولي الصالح سيدي أحمد بن عمر اعمار المتوفى سنة 1095 ه الموافق1683م، حسب شاهدة مكتوبة فوق باب مدخله. وآل عمار عائلة سلاوية عريقة، وهم المحافظون على الأثر النفيس للولي الصالح سيدي بنعاشر، والمحيون لشعائر الله وسنن رسوله الكريم. والولي الصالح الشيخ والإمام سيدي أحمد بن عاشر الأندلسي الشميني السلوي المتوفى عام 764 للهجرة، كان من أهل التجرد والانفراد ومن آحاد أولياء الله الزهاد، عالي الهمة والشرف، حفظ القرآن وقرأ العلم واجتهد في الطاعات والعبادات، وانقطع لسبيل الأعمال الصالحات. اشتغل بتعليم كتاب الله. وكراماته رضي الله عنه كثيرة على شدة إخفائه لأمره وستره لحاله.

يحد درب سيدي عبد الله بن حسون شرقا، ما كان ينعت بدرب الجامع، حيث بنت قبائل بنو عشرة دورهم وقصورهم التي سلبت الألباب. وقال فيه الأديب ابن حمارة شعرا، ورد في كتاب الاستقصا بتاريخ المغرب الأقصى، فيقول:
يا أوحد الناس قد شيدت واحدة — فحل فيها حلول الشمس في الحمل
فما كدارك في الدنيا لدي أمل—- ولا كدارك في الأخرى لذي عمل (5).

وعند مدخل الزقاق بنوا المسجد الأعظم، أحد أكبر منارات الدين والعلم بالعالم الإسلامي. كان ذلك سنة 420 ه. ويرجح أنه أسس قبل هذا التاريخ في عهد قبائل بنو يفرن، وأعيد بناءه في عهد الموحدين سنة 593 ه، على يد يعقوب المنصور (2)، بعد عودته من الأندلس منتصرا في معركة الأرك،. وبني المسجد على مساحة تتجاوز 5 آلاف متر مربع، ونقل ترابه وحجارته 700 أسير من الأسرى الأوروبيين. وعرف عدة توسيعات وترميمات على عهد الدولة العلوية الشريفة.

ومرت مواكب السلاطين والملوك من درب سيدي عبد الله بن حسون للصلاة بهذا المسجد الأعظم.

تنتصب بنفس الدرب، المدرسة المحمدية التي أحدثت، كمنارة للتربية والتعليم الابتدائي الحر. وقد تم تشييدها حفاظا على الهوية المغربية، ضد المد الاستعماري. فقد أحدث التعليم الحر بالمغرب قبل سنة 1930م، بإدخال تنظيمات على الكتاتيب القرآنية، حيث كان بعض العلماء من شيوخنا يلقون بها دروسا ابتدائية، وأصبحت أنشطتها وافرة. ثم بدأ تأسيس مدارس في مختلف الأحياء وفي مدن أخرى كالرباط والبيضاء ومراكش والقنيطرة ووجدة وطنجة وفاس وغيرها.

وكلما زاد إحداث المدارس الحرة ازداد النشاط السياسي عند الشباب في تلك المدن بصفة خاصة، مما لفت أنظار الحماية التي حاولت مواجهة ذلك بكل الوسائل والطرق (3). و افتتحت المدرسة المحمدية يوم 16 يناير 1948، “و يحكي الفقيه المريني في وريقة بخط يده؛ أنه تم استدعاؤه للوزارة حيث أبلغ بالموافقة الملكية على اختياره لإدارة المدرسة؛ وطلب منه الاتصال بناظر الأحباس بسلا السيد بلقاضي الذي سلمه بحضور عدلين مفاتيح المدرسة” (3*) تخرج من هذه المدرسة أفواج من السلاويين على مر السنين، اكتمل صرحهم، واستطال وزاد شموخا. منهم الوجهاء، والعلماء، وخدام الوطن في كل المجالات. ودرس بها أساتذة عظام، يشهد لهم التاريخ بالكفاءة والعلم، منهم الفقيه الأجل محمد المريني، إمام المسجد الأعظم الذي أشرف على إدارتها .

نحن الآن أمام ضريح الولي الصالح القطب سيدي عبد الله بن حسون، الذي ورد ذكره في الإتحاف الوجيز بالزاهد المتقشف، ابن أحمد بن الحسن الخالدي السلاسي الأصل، السلاوي مقرا ووفاة. كان عالما كبيرا، ووليا شهيرا، عجيب الحال، شهير الكرامات، معروف البركة، مقصودا للانتفاع به تبركا وكتابة. كان يخير بالشيء فيأتي كفلق الفجر. كان يجلس بالجامع الأعظم من سلا لكتب الحروز، والناس بين باد وحاضر يتساقطون لتقبيل رجليه. من تلاميذه سيدي محمد بن سعيد العتابي، المدفون بجواره، ومحمد العياشي المجاهد العارف الكبير، وسيدي محمد القجيري القصري وأضرابهم. (4).

وقد ورد في الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى أن الولي الصالح الذي توفي سنة 1013 ه أصله من سلاس مدشر على مرحلة من فاس، ثم انتقل إلى سلا بسبب الحروب والمقاتلات بين أهلها، وكان الشيخ إذا غلب مدشره فرح، وإذا انهزموا حزن، ففكر في نفسه وقال”محبة الغلبة تستدعي محبة الشر للمسلمين، وعلي عهد الله لا جلست في موضع أفرق فيه بين المسلمين وأبغي الشر لهم.”(6).
وللعلم فمحمد بن سعيد لعتابي، ورث علم أستاذه للولي الصالح سيدي أحمد بن محمد الطالب القصري، المجاور ضريحه لدرب سيدي عبدالله بن حسون بحي الطالبية.
وعودة لضريح سيدي عبد الله بن حسون، فهو شبه متحف للمعمار والزخرفة المغربية، تتوسطه قبة غاية في الرونق، وبه مسجد تقام به الصلوات. وعلى طرفه توجد مقابر آل بنسعيد السلاويين. وهي عائلة عريقة بسلا. وحكي لي أنه عند “السقاية” الملاصقة لجدار مقبرة الحسونيبن، كان يقف العلماء والأئمة والمؤقتون لمراقبة أهلة السنة الهجرية، وخاصة هلال شهر رمضان.

ارتبط ضريح سيدي عبد الله بن حسون بموكب الشموع الذي جلبه السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي خلال زيارته لإسطنبول، حيث أعجب باحتفال يضم موكبا للشموع، وقطع عهداً على نفسه بإطلاق موكب مماثل بالمغرب في حال توليه حكم البلاد، فنظّم الموكب الأول للشموع في مدينة سلا في العام 986 هجري إثر توليه الحكم. وما زال الشرفاء الحسونيون ينظمون هذا الموسم حتى اليوم وفق طقوس وعادات مرعية متوارثة. ويحتفل به السلاويون بشوارع وأزقة سلا ليلة عيد المولد النبوي الشريف. وسأخصص لاحقا موضوعا عن ذكرياتي مع موسم الشموع.
تجاور منازل الشرفاء الحسونيون وآل بن سعيد ضريح الولي الصالح. ويسهر الحسونيون على تدبير شؤون هذا الصرح الديني العتيق، فهم المحافظون عليه كموروث ديني وثقافي، وبهم ومعهم نتباهى بهذا الإرث الهائل، ونصبو أن يسجل إرثا عالميا للإنسانية.
وقبل عام فقد الشرفاء الحسونين أحد أبرز رجالاتهم البررة، الوطني الغيور، الذي كان قلبه متعلقا بالمساجد، وقضى عمره في خدمة الوطن والدين والناس، وكان سباقا لفعل الخير، ومحبوبا من الجميع، إنه الحاج محمد الحسوني رحمة الله ورضوانه عليه. ولا بد من العودة للحديث عن هذه الشخصية المنفردة التي طبعت طفولتنا وشبابنا، وعن فضائله وسعيه للخيرات وإحياء شعائر ديننا الحنيف. وستظل صورته وهندامه الأنيق خالدة في أذهاننا ما حيينا. أتذكر حسرتي وحزني لعدم استطاعتي حضور جنازته، جراء ظروف الحجر الصحي التي كانت مفروضة آنذاك. فكيف لي ألا أحضر جنازة رجل كان لا يتوانى في المبادرة إلى أنزال من فقدناهم من الأهل والأحباب إلى قبورهم قبل أن يهل عليهم التراب، مريدا بذلك وجه الله.

وأنا قافل للعودة في اتجاه قساطلة، وعند راس الدرب أسمع شذرات من السماع الصوفي المنبعث من الزاوية التيجانية التي تنتسب إلى أبي العباس أحمد التيجاني دفين فاس، ومنها خرجت هذه الطريقة المباركة وانتشرت في الآفاق.وهي طريقة صوفية ربانية يسعى مريدوها إلى تزكية النفوس وإرسالها إلى أعلى مراتب الإحسان.
هذا غيض من فيض غزير، أستعرضه لعلي أفتح شهية الباحثين للحفر في ذاكرته والتعمق في نقل تفاصيله، لإغناء رصيدنا المعرفي السلاوي الزاخر بما خلفه أجدادنا الأبرار عليهم أجل الرحمات.

مراجع:
1-سلا حديث الصورة 261-260 ، عبد الله بنسعيد، الطباعة والإخراج الفني دار أبي رقراق للطباعة والنشر 2008.
2-الاتحاف الوجيز: تاريخ العدوتين الصفحة 60، محمد بن علي الدكالي، تحقيق مصطفى بوشعراء. الطبعة الثانية 1996. منشورات الخزانة العلمية الصبيحية بسلا.
3-مجلة دعوة الحق العدد 299 صفر 1414/ غشت 1993 .
3*-مؤلف”الفقيه الحاج محمد المريني رجل التربية والتعليم والتنشئة الدينية”، جمع وتنسيق وإعداد، عبد الوهاب المريني، تقديم الأستاذ العلامة أحمد الخمليشي مدير دار الحديث الحسنية.
4- الاتحاف الوجيز: تاريخ العدوتين، الصفحة 118.
5- كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الجزء الثاني، ص 108، أحمد بن خالد الناصري.
6: كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الجزء السادس، ص 109، أحمد بن خالد الناصري.
7-شيوخ الملحون السلاويون جواهر في ذاكرة الملحون المكنون، ص62، نور الدين شماس