محمد فؤاد قنديل
أسأل نفسي دائما عن الوسيلة التي تمكن من غرس بذور حب الوطن، والتعلق به والإخلاص له والتضحية من أجله، في نفوس الصغار، حتى يدركوا أن حب الأوطان من الإيمان. مرمى سعيت إلى بلوغه وترسيخه تدريجيا في أوقات مناسبة، كلما احتك أطفالي بمواقف قوية حابلة بمعاني الولاء للأمة، ورجحت نجاعتها في ضخ دماء الوطنية في رئاهم.
ولعل أبلغ درس نستلهم منه العبر، هو سرعة اختيار رياضيين من المهجر اللعب لوطنهم الأم، تلبية لنداء آباءهم وأمهاتهم، الذين غادرت أقدامهم الوطن لكن قلوبهم ظلت فيه. ولكم تحنّ الكرام لأوطانها حنين الطيور لأوكارها. هي أسمى عبارات البر بالوالدين والإحسان إليهما. وقد جسدوا انتماؤهم بدون قيد أو شرط فوق عشب الملاعب، واستماتوا مدافعين عن قميص المنتخب الوطني بروح قتالية ومهارة كروية. وأضحى العالم يتساءل عن السر وراء اختيار هذا الرياضي الملياردير اللعب لبلد والديه. وعن ذاك الذي كان له نفس الاختيار غير أن واحدا من والديه فقط مغربي! بل كيف لهم بكل هذه الندية والقتالية! ومنهم من آثر اللعب وهو مصاب، مضحيا بمستقبله الكروي وبكل الماديات!.
هؤلاء الشباب الوطني، جعلني منبهرا بفورة الأحاسيس المهنئة التي فاح طيبها، تقديرا من شعوب العالم لهم، وافتخارا بتميز الشعب المغربي بقيمه النبيلة، وفرادته في خلق الحدث في كأس العالم. اندهشت لمنسوب درجات تدفق مشاعر الانتماء لهذا الكون الشاسع الذي توحد في التعبير عن حب بلادنا، بمشاعر جياشة تفيض تقديرا وودا لهذه الرقعة من الأرض ولناسها الكرماء، حيث صار المغرب فجأة مركزا لعالم ودود ومتآخي.
لا أخفيكم أنني لم أكن يوما بحاجة لشهادات من ألهمتهم انتصارات فريقنا الوطني، حتى استكشف عظمة هذا الوطن. ولست بحاجة لتعداد خصال أهله، وسرد سلسلة أمجاد تاريخه الثقيل الممتد لاثنتي عشرة قرنا، حتى تتجدد قناعتي بأن مغربي وطن متفرد بناسه وقيمه المتجدرة في تقاليده وعاداته.
ها هي عشرات القنوات التلفزية العربية والأجنبية تبث برامج، يظهر فيها المحللون بدهشة بادية على محياهم، انبهارهم لروعة تلك اللقطة التي يقبل فيها هذا اللاعب رأس والدته، ويحتضن الآخر والده بحرارة بعد تحقيق الانتصار. الكل يسأل عن سر السجود الجماعي لتشكيلة الفريق شكرا لله، في مظهر إيماني ولحظة فرح أرادوا أن يشكروا الله عليها، على مرأى ومسمع ملايين المشاهدين. وقد زادهم تعجبا وإعجابا هذا الجيش العرمرم من المشجعين المغاربة الذين يخلقون الحماس والنشاط في دروب وأزقة الدوحة، وهم يستعرضون تقاليدهم وعاداتهم وأناقتهم في اللباس، وأخلاقهم النابعة من جدور تربيتهم، وقيمهم المثلى الراسخة في ثقافتهم، المجسدة لمعاني التآخي بين الشعوب. هؤلاء أنفسهم من صنعوا جسرا في السماء بين الدار البيضاء والدوحة، بل أتوا من أرجاء العالم، لتشجيع فريقهم بكل حب وحماس، مضحين بالغالي والنفيس، مالا ووقتا وجهدا فداءا للوطن. حتى بلغ التمني عند غير المغاربة حد الرجاء لو يتوقف الزمن للحظة يتحولون فيه لمغاربة مثل هؤلاء المشجعين، ليدركوا سر كل هذا الحب لوطن إسمه المغرب!
رأيت قنوات تلفزية من الخارج تنتفض في وجه جامعاتها المسيرة للكرة ببلادها، لأنها ليست في مستوى مثيلتها في المغرب. وأخرى تعري عورة سياساتها الرياضية الفاشلة. سمعت معلقين يلتمسون أعتماد النموذج المغربي كوسيلة مثلى لبلوغ النجاح.
قرأت تدوينة لأجنبي يدعو فيها بني جلدته لمراجعة النفس التي انساقت وراء هواها وطغت عليها أنانية الذات، وأنسخلت عن رسالة الحياة، حتى أصبح الواحد يرمي أمه وأباه في دور العجزة كلما بلغ أحدهما أو كلاهما الكبر. لم أخف قهقهات سخريتي من لاعب يدعو لمباركة زفاف الشواد، لكنه في نفس الوقت يخرج عند بداية المباراة مرفقا بطفل صغير، في رسالة مليئة بمعاني تشجيع الناشئة على حب الكرة، وعلى الأمل في مستقبل مشرق لأجيالنا القادمة، بينما هو بتشجيعه لفعل شنيع يدعو للحد من النسل، وانقراض الأجيال اللاحقة!
عند عودة المنتخب، تساءل المحللون إن كانت صور الإستقبال الفخم من قلب المغرب حقيقة أم خيال؟ مستحيل…كيف لهذه الصفوف المتراصفة من المغاربة بجوانب الأرصفة أن تستقبل فريقها الوطني وتحييه بالورود والزهور والهتافات، وهي في غاية التنظيم والتحلي بالمسؤولية! ومن أين لهذا البلد بهذه الطرق النظيفة والبنيان المرصوص، وبهذه الطبيعة الساحرة، وهذه العمارة الخلابة! من أين لبلد إفريقي بكل هذه الحضارة والتمدن!. وتتواصل المقارنات، فهذه الأرجنتين فشلت في تنظيم حفل استقبال أبطالها حتى كان احتفالها بدون طعم وبلا دوق. وتلك البلاد تعرض لاعبوها للتنمر لإضاعتهم ضربات الجزاء. بينما المغرب يحقق النجاح تلو الآخر.
وفجأة أصبح حدث بلوغ نصف نهاية كأس العالم حدث ثانوي، لينبهر العالم بالإستقبال الملكي العظيم. ويصطف كل لاعب بجانب والدته بكل فخر وأعتزاز وترقب وانتظار للوقوف بين يدي جلالة الملك. منظر لن تراه إلا في بلاد تمتد حضارتها ضاربة في عمق التاريخ. رأيت مبلغ رضى الأمهات عن أبناءهن، وفخر الإبن الذي أستطاع أن يوصل والدته إلى حضرة ملك البلاد بداخل القصر الملكي العامر. كانت لحظات للتاريخ عكست عطف ورضى ملكنا الهمام على أبناء شعبه.
أرجعتني الذاكرة لسبعينيات القرن الماضي، وأنا أتلصص المنفذ الذي يوصلني للتلفاز الأبيض والأسود بمنزلنا، أو حيث كانت مباراة ألمانيا وهولاندا في نهاية كأس 1974، منقولة ” بلا تشاش”. وسعادتي بطلعة يوهان كرويف والأخوين ويلي فان وروني فإن دي كوركوف ونيسكانز. ومقابلات ملاعب سيدي بنعاشر التي نقلد فيها نجوم الكرة ونحمل على أقمصتنا أرقامهم. في مباريات تنتهي بسلخ أظافرنا واقتلاعها لكثرة بقايا شاهدات القبور القديمة فوق أرضية ملاعبنا الترابية، ولقسوة “بالون هنغاريا” الثقيل الصلب على أجسادنا النحيفة. تذكرت تلك البهجة التي كانت تغمر حينا، والتيمومي والظلمي ولمريس يكتبون تاريخا كرويا جديدا بمكسيكو سنة 1986. وفخري يزداد بمشاركة إبن ثانويتي الأيوبي اللاعب منصف الحداوي، إبن مدينتي سلا و لاعب الجمعية الرياضية السلاوية وهو يشارك منتخب المغرب الحدث. علمت أن حب الكرة وهوس مباريات كأس العالم بقطر هو تتويج لكل الانتصارات وحتى الإخفاقات التي عاشتها كرتنا منذ زمان. وتأكدت أنني مهووس بحب الكرة حد الجنون. و تيقنت أن حب الأوطان من الإيمان. وجزمت أنك إن لم تستطع أن تكون مغربيا، فما عليك إلا تمت وأنت تحاول.