إعداد .ع. عسول
نظم الخميس 10 مارس الجاري مختبر الفلسفة وقضايا العصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء؛ مائدةً مستديرةً حول موضوع ” اللاهوت وفلسفة الدّين المعاصرة” بقاعة عبد الواجد خيري.
حيث توزعت أشغال المائدة المستديرة على جلستين؛ ترأست الأولى ذة. ابتسام براج؛ وتميزت بكلمة مهمة لمدير المختبر ذ. عبد اللطيف فتح الدّين( ننقلها كاملة لأهميتها) ؛ إضافة لكلمة منسّق المائدة المستديرة: ذ. نبيل فازيو ..كما تميزت الجلسة الأولى بمداخلتين .أما الجَلْسَةُ الثانية فترأسها ذ. خالد لحميدي وعرفت إلقاء ثلاث مداخلات.
**فيما يلي النص الكامل لكلمة مدير المختبر الاستاذ عبداللطيف فتح الدين ” ” عادة ما تكون البداية هي الصعبة. وها نحن ما عدنا في إطار البداية التأسيسية فحسب، بل صرنا نؤسس ـ في هذه الشعبة، كلٌّ من موقعه ـ لِتَقليد بحثي فلسفي نتمناه أن يُمسي تقليدا راسخا. بالأمس القريب، كنا مع ندوة للطلبة الباحثين دارت على فلسفة الحق والسياسة، وها نحن اليوم أمام ندوة أخرى هذه المرة عن اللاهوت وفلسفة الدين” .
وأضاف مدير المختبر ” كثيرون منا يعتقدون أن “اللاهوت” ـ وهو ما يقابله في تراثنا “علم الكلام” ـ قد بات “لعبة قديمة” un vieux jeu ما عاد يهتم به سوى الباحثون المهتمون بالموتى، وسرعان ما يتذكر قول السيد المسيح الذي لطالما أحب هيجل أن يستشهد به: “دَعِ الموتى يدفنون موتاهم”. وقد يُزايد هذا المعترض بالقول: “دَعِ اللاهوت لشيوخ الفلسفة، أما الشباب فَهَات “التفكيكية” و”الجنيالوجية” و”التواصلية” … وَلَا كما اعتقد هذا المعترض. ذلك أن اللاهوت شأنٌ حيٌّ ذائع. وذلك لأسباب ؛ مِنْهَا؛ أننا “مجتمعات لاهوتية” ـ أحببنا ذلك أم كرهنا ـ اللاهوت حاضر فينا ـ شئنا أم أبينا ـ فنحن قومٌ من أشد الأقوام ذكرا لله ـ ومن ثمة اشتُق اسم اللاهوت ـ في حياتنا اليومية، ولربما كنا أبعدَ الأقوام عن الله، مِصْدَاقا لقول البسطامي: “أشدُّكُم ذكرا لله أبعدُكم عنه”.
ومنها؛ أن مجتمع التقنية الذي كان قد بشَّر به الكثير لم يستغن عن اللاهوت بالمرة، بل جَمَعَ بينهما على نَحْوِ ما نَبَّهَ عليه الخطيبي في كتاباته … وقبله كان قد فَعَل هايدجر ـ أحد أبطال هذه الجلسات.
ومِنْهَا؛ أن ما مِنْ مذهب ديني إسلامي، حتى وإِنْ هو بَدا معاديا للاهوت، فإنه أنتج لاهوتَه الخاص به. ويبدو أنه كما كان لكل طائفة مذهبية إسلامية فقهاؤها الذين يجتهدون في نشر مذهبها، فكذلك كان لها متكلمومها الذين يَذُبُّون عن عقيدتها. فلقد كان للإمامية متكلمومها، كما كان للإباضية متكلموها. ولقد كان للظاهرية متكلموها، مثلما كان للباطنية متكلموها. هذا فضلا عما كان للزيدية وغيرها من متكلمين. وكما كان للسُّنِّية متكلمومها، فلقد كان للشيعة متكلموها … بل حتى كان لزنادقة الإسلام متكلموهم ـ كابن الوراق وابن الرواندي وغيرهما. بل حتى الذين ناهضوا علم الكلام، وجد لهم علم كلام، مثل الحنابلة بخاصة وعلماء الحديث بعامة.
ومن هنا تكتسي هذه الندوة أهميتها وحِينيتها ـ أو بلغة المرحوم الحبابي “حينونتها”.
هذا من جهة “اللاهوت” أما من جهة فلسفة الدين، فغيرُ خافٍ عليكم أن سوق فلسفة الدين سوق رائجة في العالم اليوم بشرقه وغربه. والسبب في ذلك أن الظاهرة الدينية أضحت ظاهرة incontournable في عالمنا اليوم. وإذا كان نابليون قد قال لجوته Goethe في بداية القرن التاسع عشر: السياسة هي تراجيديا هذا الزمان، فإنه يمكننا أن نقول بالمثل: الدين هو تراجيديا هذا الزمان. وسواء اهتممتَ أنت بالدين أم لم تهتم، فإنه كالسياسة تماما إن أنت لم تهتم به اهتم بك هو.
قد يتساءل من هو حاضر في هذه الندوة: وما العلاقة بين اللاهوت وفلسفة الدين؟ والجواب واضح: كلاهما اهتمام بالدين، لكن ليس بنفس الاهتمام: الموضوع واحد والمقاربة متباينة. ذاك [اللاهوت] اهتمام دفاعي apologétique عن الدين، وهذه [فلسفة الدين] اهتمام نقدي critique بالدين.
وثمة صلة أخرى يمكن أن نستكشفها؛ وهي أن كلاهما اهتمام بالتأويل. وغيرُ خافية هي أهمية التأويل في حياتنا المعاصرة، وذلك بحكم كونُ الإنسان، بالأولى، كائنا مؤولا Homo interpretans.
يحكي الفيلسوف اليهودي الألماني مارتن بوبر Martin Buber في رواية له تحت عنوان “ياجوج وماجوج” Gog et Magog كيف أن يهود جيتو مدينة وارسو ببولندا اختلفوا في هجوم نابليون على بلادهم: تُرى هل يناصروه أم يقاوموه؟ فكان أن ضَرَبَ كل واحد بيده إلى التوراة يؤولها تأويلا باحثا عما يسند به موقفه. وذلك في دليل على أنه كما قال نيتشه لا توجد “وقائع” وإنما كل ما يوجد “تأويلات”.
ومن هنا تكتسي هذه المائدة المستديرة أهميتها إذ تنظر في هذا الموضوع البالغ الأثر. وقد استدعينا لها طائفة من ألمع طلبتنا، ومن ذوي اهتمامات متباينة، سوف يحدثونا عن فلاسفة وعلماء لاهوت قَلَّما سُمِعَ بهم في بلادنا شأن هنري ديمري Henry Dumery ورودلف بولتمان Rudolf Bultmann. لكن ما يجمع بين باحثينا الشباب هو أنهم أمل هذه الشعبة، ونحن نتمنى في مختبرنا أن يكونوا خير خلف لخير سلف. وإني لأَوَدُّ أن أُطَمْئِنَ أساتذتنا الأجلاء بهذه الشعبة أنهم غرسوا أفضل الأغراس عطاء. كما لا يفوتني أن اقدم شكري الخالص للطالب الباحث محمد زكاري على مهامه لتنسيق أعمال المائدة المستديرة بكل تفان ونكران الذات كما أثني على الزميل نبيل فازيو من شباب أساتذة هذه الشعبة الذين يبلون البلاء الحسن في الوصل بين جيل أساتذته وجيل طلابه. كما أتوجه بشكر خاص إلى اللاستاذ والزميل الودود مخمد الشيخ الذي لم يتوانى يوما عن تقديم النصح لطلبته بكل حب وأريحية وأشيد بشابين آخرين، أو بالأحرى بشابة وشاب؛ هما الأستاذة ابتسام والأستاذ الحميدي اللذين قبلا تسيير جلسَتَيْ هذه المائدة المستديرة بابتسامة وبحمد، فلنبتسم للحمد، ولنحمد الابتسامة.
**مداخلات الطلبة الباحثين ..
جاءت مداخلة الطالب الباحث مهدي مستقيم في موضوع “إنري دمري: من الفلسفة الدينية إلى فلسفة الدّين”.. حيث سجلت إنَّ شُروع (فلسفة الدين) في الانبجاس والتشكُّل جاء نتيجة الحياد الموضوعي الذي يلتزم به الفيلسوف إزاء مسألة (الاعتقاد بوجود الله)، وإزاء (التسويغات العقليّة) التي يتكل عليها العقل اللاهوتي من أجل إثبات صدق (الاعتقاد) ذاك. لقد جاءت (فلسفة الدين) كرد فعل على فلسفة العصور اليونانية و الوسطى التي كانت ترمي إلى جعل (فلسفة الدين) فلسفة إلهية: (فلسفة الألوهة)، حيث أكبت على النظر في (الظاهرة الدينية) في شتى أبعادها ودلالاتها. وذلك بإخضاع أبعادها الموضوعيّة لِمِحَكِّ الفحص والنقد التاريخي والثقافي والانثروبولوجي والابستمولوجي.
مداخلة الطالب الباحث سعيد أسطيفي “رودولف بولتمان: نحو آفاق جديدة لقراءة النصّ الديني وتأويله”.
أكدت المداخلة أن خلق تأويل النص الديني معضلة هيرمينوطيقية. اخترقت مجمل تاريخ المجتمعات الكتابية، وقسمتها إلى ملل ونحل، وأسالت دماء كثيرة. فالاختلاف في التأويل ولد خلافا، أو النقل بعبارة أخرى؛ إن كل تأويل ولد اعتقادا، وكل اعتقاد هو سليل تأويل معين. ولعل المسيحية والإسلام أبرز شاهد على أهمية التأويل ومفعوله في نشر بذور الفرقة والانقسام، وتشكل المذاهب وإيقاد نار الحرب والفتن.
مداخلة الطالب الباحث عبد الرزاق توماني “من تأويل النصّ إلى سؤال هيرمينوطيقا حياة الوجود الواقعي”.
هدفت هذه الورقة إلى ملامسة المنعطف الهيرمينوطيقي الذي شهدته التأويليات المعاصرة، حيث الانتقال من تأويل نص الكتاب المقدس، إذ “النص وحده، ولا شيء غير النص”، إلى هيرمينوطيقا “حياة الوجود الواقعي” أو برادايم الذات والعالم الذاتي. إذ لم تعد الهيرمينوطيقا مجرد منظومة من القواعد، ولا هي فن من فنون تفسير النصوص المقدسة، ولا مجرد نظرية في الفهم، وإنما أصبحت تتناول عمق الانبثاق الأصلي للوجود الذاتي. لتتغير مع هذا المنعطف إشكالياتها، ورسالتها وموضوعاتها، كما صارت سيرورة فهم وتفسير للفلسفة نفسها. ولعل خير نموذج يمكن استحضاره في التأويليات المعاصرة ، نموذج رودلف بولتمان ونموذج مارتن هايدغر.
مداخلة الطالب الباحث إبراهيم ونزار “من اللاهوت إلى فلسفة الدّين: التلقي الحداثي للاهوت الفلسفي الوسيطي”.
وعنيت هذه المداخلة برصد عناصر الانتقال التاريخي والمنهجي والإشكالي من التفكير اللاهوتي في الدين إلى التفكير الفلسفي. لم يكن بالمُكنة إفراز خطاب فلسفي خالص موجّه للنظر في الشأن الديني، بالمعنى الذي أسست له المتون الحداثية، بحمولتها المنهجية والعلمية الجديدة، بيد أنّها تتقاسم وإياها الأفق الإشكالي نفسه: النظر إلى المُقدَّس بوصفه موضوعا للتفكير العقلاني وبحسبانه أرضية للتأويل وفق ضوابط أكثر انسجاما مع الأطر العقلانية والمنطقية الممكنة في سياقها وشروط عصرها. ويهمّ هذا الرصد تجربة موسى بن ميمون القرطبي وتلقي أفكاره لدى بعض رواد الحداثة الفلسفية، وبالتحديد: باروخ سبينوزا ودافيد هيوم.
أما مداخلة الطالب الباحث معاذ سليماني “تقاطعات الفلسفة واللاهوت”..
فقد عكفت محاور الورقة على تبيان الأسس المشتركة بين الفلسفة واللاهوت، ولا تتحدد تلك الأسس في مفاهيم مكتملة المبنى والمعنى؛ بل إنها الأسس الرمزية القبلية لكل معنى ممكن التشكل داخل مدونات نسقية كبرى. و تركزت جهود الورقة، للبحث فيما تقدم، على لحظتين: الهلنيستية والابراهيمية. من خلال المحاور : 1/ السياق الواقعي الفعلي لانبثاق مفهوم التجريد 2/تشكل نص خفي ؛ عندما صار أبرام إبراهيم 3/التراث الابراهيمي؛ سيرة بحث عن وجود مفارق.