
بقلم طه العَرَبِي
“لقد أخذنا على عاتقنا أمر معالجة ملف الصحراء المغربية بمنظور جديد يتسنى به التعامل معها بإنصاف وموضوعية و واقعية ” .
بهذه العبارات الواردة في خطاب ذكرى المسيرة الخضراء لسنة 1999 ، أرسى جلالة الملك محمد السادس الدعائم الوطيدة للمنهجية التي ستتبعها المملكة المغربية لتدبير قضيتنا الوطنية .
فما بين خطاب المسيرة الخضراء لسنة 1999 و الخطاب التاريخي و الإستثنائي ل 31 أكتوبر 2025 , مرت أحداث و مجريات في مسار ترسيخ المغرب لسيادته على الصحراء تبنت المملكة لنمطين أساسين لحل هذا النزاع : الأول هو الإلتزام بالمسار الأممي باعتباره الألية الكفيلة بحل هذا النزاع المفتعل ، و الثاني يتجلى في تنمية الأقاليم الجنوبية و الإرتقاء بها وفق نموذج تنموي خاص يراعي الأبعاد المجالية و الحضارية لهذه الأقطار من وطننا العزيز .
و للإحاطة بالجوانب المرتبط بكرونولوجية تدبير المؤسسة الملكية لقضية الصحراء ستقسم هذه الورقة العلمية إلى ثلاث مستويات رئيسية ، (المستوى الأول يهم المرحلة من 1999 إلى 2007 ) ، بينما ( المستوى الثاني يخص الحقبة الزمنية ما بين 2007 إلى 2019 ) ، في حين سيخصص المستوى الثالث للمرحلة ما بين 2019 إلى 31 أكتوبر 2025) .
المستوى الأول : من 1999 و 2007 … نفس جديد في التدبير الملكي للقضية الوطنية
تزامن تولي جلالة الملك محمد السادس زمام حكم المغرب ، مع وجود حالة من الجمود السياسي في نزاع الصحراء المغربية ، خصوصا في الأسلوب الذي كان مجلس الأمن يتبعه في تدبير الملف ، ولهذا ارتأ جلالته إعطاء نفس جديد للملف عبر مقاربة ثلاثية الأبعاد ، وهي الواقعية و الموضوعية و الإلتزام بالمسار الأممي ، بالإضافة إلى تجاوز الخطاب السياسي المستخدم في التواصل مع أطراف النزاع ، فقد جاء جلالته بخطاب سياسي جديد و منفتح يقوم على الشرعية الدولية أولا ثم الخلفية التاريخية ثانيا ، بالإضافة إلى تبني فضيلة ” إن الوطن غفور رحيم ” تجاه أبناء المغرب داخل مخيمات تندوف ثالثا .
فالخطاب السياسي الملكي المستخدم في تدبير هذا الملف عرف إعادة الهيكلة لاسيما من خلال المكونات الدلالية المستخدمة فيه ، فمثلا عرفت هذه الحقبة إعادة تعريف مفهوم الوحدة الترابية ، فالمغرب اعتبر وحدته الترابية قضية وجود لا قضية حدود ، بالإضافة إلى اعتبار أن أي حل أو مقترح تقدمت بهما هيئة الأمم المتحدة و أجهزتها في هذا الملف ينبغي أن يحترم السيادة المغربية من طنجة إلى لكويرة .
على أرض الواقع عرفت منطقة الصحراء في تلك الفترة إشراك شيوخ و أعيان القبائل الصحراوية في التدبير الجهوي و المحلي للشأن العام من منظور مؤسساتي و رسمي ، فالمؤسسة الملكية حرصت على جعل أبناء الصحراء جزءا من الحل، لا مجرد موضوع نزاع، وهو ما تجسد في اللقاءات التشاورية والمشاريع التنموية التي أطلقت آنذاك ، وقد مهد هذا التوجه التشاركي إلى بلورة المقترح المغربي للحكم الذاتي الذي تقدمت به المملكة رسميا سنة 2007 باعتباره ثمرة مسار من المشاورات الميدانية والحوارات العميقة مع مختلف الفاعلين المحليين والسياسيين في الصحراء . هذا المقترح لم يكن مجرد مبادرة سياسية ظرفية، بل جاء كترجمة واقعية لرؤية ملكية تسعى إلى تمكين ساكنة الأقاليم الجنوبية من تدبير شؤونهم بأنفسهم في إطار السيادة والوحدة الوطنية، وهو ما شكّل نقطة تحول في منهجية التعاطي الملكي مع الملف، حيث انتقل من مرحلة الدفاع عن الشرعية إلى مرحلة عرض الحل السياسي الواقعي والعملي الذي حظي منذ ذلك الحين بتأييد واسع من طرف المنتظم الدولي .
المستوى الثاني : من 2007 و 2019 …. التمكين الدبلوماسي و السياسي للصحراء المغربية
من سنة 2007 ، وبعد أن قدم المغرب مبادرة الحكم الذاتي، دخلت قضية الصحراء مرحلة جديدة اتسمت بالتحرك الدبلوماسي الفعال وبالانتقال من منطق المبادرة إلى منطق الفعل الميداني ، فقد جعل جلالة الملك محمد السادس من هذه المبادرة الإطار المرجعي لأي حل سياسي، وهو ما أكده مجلس الأمن في قراراته السنوية، التي اعتبرت المقترح المغربي جديا وذا مصداقية .
وفي هذا الإطار، برزت الدبلوماسية الملكية كآلية متعددة الأبعاد؛ فإلى جانب الدبلوماسية الحكومية ، تم توسيع العمل الدبلوماسي ليشمل البرلمان، والأحزاب، والمجتمع المدني، بل وحتى الزوايا الدينية التي لعبت دورا مهما في تقوية الروابط المغربية الإفريقية . كما حرص جلالة الملك على أن تكون التنمية ركيزة أساسية لترسيخ مغربية الصحراء، وهو ما ترجم بإطلاق النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية سنة 2015 من مدينة العيون، حيث تم إطلاق مشاريع كبرى في مجالات البنيات التحتية، الطاقات المتجددة، الصيد البحري، والربط الطرقي والمينائي، لتصبح الأقاليم الجنوبية نموذجا للجهوية المتقدمة والتنمية المندمجة ..
و في سنة 2017 حقق المغرب خطوة إستراتيجية كبيرة بعودته إلى الاتحاد الإفريقي، مما مكنه من الدفاع عن وحدته الترابية من داخل المؤسسة الإفريقية، بدل ترك مقعده شاغرا ، وقد كان خطاب جلالته في أديس أبابا واضحا حين شدد على أن “إفريقيا لا تحتاج إلى حروب باردة جديدة، بل إلى مشاريع تنمية وتعاون قاري مندمج ” .
كما واصل المغرب خلال هذه الفترة تعزيز حضوره الدبلوماسي في القارة الإفريقية من خلال سياسة التعاون جنوب–جنوب التي دعا إليها جلالة الملك، والتي تقوم على مبدأ رابح–رابح ، كما تم توقيع العشرات من الاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية مع دول إفريقية شقيقة و صديقة ، مما ساهم في خلق شبكة دعم متينة للموقف المغربي داخل القارة، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الديني .
وبنهاية هذه المرحلة، تمكن المغرب من تثبيت دعائم الدعم الدولي والإقليمي لمبادرته، وجعل الحكم الذاتي المرجعية الواقعية والوحيدة المعترف بها أمميا، تمهيدا لمرحلة جديدة في مسار الحسم النهائي للملف .
المستوى الثالث : من 2019 إلى 31 أكتوبر 2025 … الفتح المبين
عرفت قضية الصحراء المغربية خلال هذه الفترة مرحلة جديدة من تاريخها المعاصر، عنوانها الانتقال من الدفاع إلى التمكين السيادي ، فطالما أكد جلالة الملك أن زمن الغموض في المواقف قد انتهى، وأن المغرب يمارس سيادته كاملة على جميع أقاليمه الجنوبية، سياسيا وتنمويا وأمنيا ، وقد ترجمت هذه القناعة الملكية إلى خطوات عملية على أرض الواقع، من خلال افتتاح عشرات القنصليات و المعاهد الدولية في مدينتي العيون والداخلة، في اعتراف دولي متنامٍ بمغربية الصحراء، شكّل سابقة في تاريخ هذا النزاع المفتعل .
وقد جاء الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء سنة 2020 ليشكل لحظة فارقة في مسار هذا الملف، إذ اعتبر دعماً صريحاً من قوة عظمى لمقترح الحكم الذاتي، وتحولاً نوعياً في موازين القوى داخل مجلس الأمن ، كما تعزّز هذا الزخم الدولي بمواقف تاريخية لعدد من الدول الأوروبية المؤثرة، إذ عبّرت فرنسا عن دعمها الكلي للمبادرة المغربية للحكم الذاتي من خلال الرسالة التي وجهها الرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون إلى جلالة الملك بتاريخ 31 يوليوز 2024 ، فيما تبنت إسبانيا نفس الموقف باعتبارها أن المقترح المغربي هو الأساس الأكثر جدية لحل النزاع، وانضمت كل من البرتغال والمملكة المتحدة إلى هذا التوجه الواقعي، من خلال إشادتهما بالجهود المغربية ودعمهما لمسار الحل الأممي القائم على الواقعية والتوافق .
مسيرة البناء و التنمية في الأقاليم الجنوبية لم تقتصر على البعد الوطني فقط أطلق جلالة الملك في نونبر 2023 ” المبادرة الأطلسية ” بهدف تحويل السواحل الجنوبية للمملكة إلى منصة للتكامل الأطلسي الإفريقي، تربط بين التنمية الوطنية والدبلوماسية الاقتصادية و الإستثمارية للمملكة فهذه المبادرة لم تكن معزولة عن ملف الصحراء، بل العكس فقد شكلت تتويجا لمسار دبلوماسي وتنموي جعل من الأقاليم الجنوبية مركز إشعاع اقتصادي وجيوسياسي هام .
كل هذه العوامل أسست لموقف عالمي و أممي يخدم مصالح السياسة الخارجية المغربية عبر تبني مجلس الأمن للقرار رقم 97 27 ، هذا القرار الذي جاء نتيجة لدبلوماسية حكيمة يدبرها جلالة الملك بتبصر و يعتبر فيها جلالته أن السيادة المغربية خط أحمر و أن الحل السياسي و الدبلوماسي لهذا الملف المفتعل هو الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية و هذا ما تحقق فعلا عبر مصادقة مجلس الأمن الدولي على هذا المقتضى .
و بهذا – كما اعتبر جلالة الملك في خطابه التاريخي و الإستثنائي – بتاريخ 31 أكتوبر 2025 أن المملكة حققت فتحا مبينا في مسار تكريس مغربية الصحراء و أن بعد اليوم لن يتطاول أحدا على حقوق المغرب و حدوده التاريخية .
**باحث في العلوم السياسية و التواصل السياسي