مراسلون 24 – متابعة
برز، في الشهور الأخيرة، «مجرمون» من نوع خاص. هم أشخاص تعرفون بعضهم، تجدونهم دوما رابضين داخل مكاتب في جماعات وملحقات إدارية،
خلف أبواب وشبابيك علقت عليها يافطات «مصلحة تصحيح الإمضاءات» أو «المصادقة على الوثائق». لا يمر شهر إلا ويرد نبأ عن اعتقال موظف جماعي أو عون سلطة بتهمة تزوير وثائق رسمية أو التدليس فيها أو المشاركة في ذلك. كل التعاملات الإدارية والتعاقدات والالتزامات تمر على أيديهم، تكون بعض هذه التعاقدات قانونية ويحتاج بعضها الآخر إلى غض طرف أو إلى إمضاء من أقلام موظفين مكلفين بالمصادقة على الوثائق ومطابقتها بالأصل وتصحيح الإمضاءات. صار الوضع يدعو إلى الارتياب بشكل أكثر إثر تداول وثائق رسمية فارغة على نطاق واسع عبر الأنترنت. نكشف في هذا التحقيق طريقة اشتغال بعض موظفي هذه الإدارات مع شبكات خاصة بالتزوير واختلاس أموال الأبناك وبيع أكواخ صفيحية والاتجار في شهادات الولادة والموافقة، «تحت الطلب»، على بيع رضّع وأطفال صغار.. نقدم نماذج لعمليات تدليس وتزوير، من مصالح جماعات وملحقات إدارية في الدار البيضاء، مراكش، خريبكة وفي مدن أخرى، كل ذلك من خلال وثائق حصلت عليها «المساء».
لا يمكن لمعاملات بين مواطنين أن تتم إلا بالمصادقة عليها في مصالح تصحيح الإمضاءات وبالمصادقة على الوثائق في مقاطعات وملحقات إدارية. ورغم أن هذه الإجراءات القانونية تبدو بسيطة، فإنها تربط مصير أناس وتوضح معالم تعاملات مالية، بالملايير أحيانا.
دقة وحساسية مهام الموظفين العموميين، الموجودون في الصفوف الأمامية للإدارة العمومية، تجعل العديد منهم عرضة لانزلاقات إدارية تكلفهم حريتهم أحيانا. هذا ما يحدث في عدة جماعات ومقاطعات مغربية.
ستكون البداية من خلال الجواب عن السؤال التالي: كيف يتورط موظفون جماعيون في مافيات بناء عشوائي وضمن شبكات للسطو على حسابات بنكية؟..
عقود عشوائية
في مثل هذا الأسبوع من السنة الماضية، اعتقلت مصالح الأمن في الحي الحسني في الدار البيضاء رئيس قسم الموظفين وموظفا يعمل في قسم تصحيح الإمضاءات في المقاطعة نفسها. وجاء الاعتقال على خلفية مصادقة موظف تصحيح الإمضاءات، تحت إمرة رئيس القسم، على وثيقة عبارة عن وكالة باسم شخص متوفى، ضمّت توقيعات مزورة تتيح لشخص آخر حق التصرف في حساب بنكي وسحب أموال منه.
الخطأ بسيط للغاية ويكمن في أن الموظف الجماعي لم يتأكد من صحة الإمضاء ولم يطلب حضور الشخص الموقع على الوثيقة والاطلاع على بطاقة تعريفه الوطنية. قاربت المَبالغ المختلسة من الوكالة البنكية الموجودة في الحي الحسني، نتيجة هذا “الخطأ”، نصف مليار سنتيم، كما تمت متابعة مدير الوكالة وإطار بنكي متدرب في الوكالة نفسها بتهمة تزوير وثيقة والسطو على حساب بنكي توفي صاحبه، بينما تقرر الإفراج عن رئيس قسم الموظفين وعن الموظف الجماعي بكفالة مالية.
سارع رئيس المقاطعة، على الفور، إلى سحب التفويض الذي خوّله لرئيس قسم الموظفين، والذي يشغل أيضا منصب رئيس قسم تصحيح الإمضاءات، إثر هذه الواقعة التي “فجّرت” حقيقة تورط موظفين جماعيين في المقاطعة في أخطاء مهنية قاتلة وهو ما يكشف عنه المسؤول في العمالة بقوله: “رغم أن رئيس المقاطعة يبذل جهدا لضبط الأمور داخل المقاطعة، فإن سمعة الأخيرة صارت في “الحضيض”، الكل يعلم أن هذه الإدارة، من بين إدارات قليلة في المغرب كله، يمكن أن تتم فيها عمليات مصادقة على وثائق وتصحيح إمضاءات دون سلك المساطر القانونية أحيانا، لهذا الغرض يقصدها مواطنون من عدة مدن للمصادقة على عقود والتزامات “مشبوهة”، تتعلق أساسا بالمصادقة على بيع أكواخ صفيحية، رغم أن مذكرة وزارية صادرة عن الداخلية تمنع المصادقة على مثل هذه البيوع، للحد من انتشار الأحياء الصفيحية”.
يشير حديث المسؤول سالف الذكر إلى أكثر المعاملات شبهة التي تجري داخل هذه المقاطعة، يتعلق الأمر بالمصادقة على عقود بيع أحياء صفيحية، هذا ما تشهد عليه وثائق تتوفر عليها “المساء” ويشهد عليه واقع انتشار البناء العشوائي هنا.
الحي الحسني مقاطعة كبيرة في جنوب الدار البيضاء، على حدود العاصمة الاقتصادية وقرى ومداشر، يفسر هذا الأمر تسلل مظاهر “أرْيفة” لهذه البقعة من العاصمة الاقتصادية. هنا فقط يمكن للأبقار والمواشي أن “تتمشى” على الطرق بكل حرية إلى جانب السيارات، دون أن تعترض سبيلَها السلطة المحلية. حظائر ماشية بنيت عشوائيا في أحياء صفيحية. محلات تجارية في أسواق بلدية تحولت إلى شقق سكنية، وباعة متجولون سدّوا جل الطرق المخترقة للحي الحسني. براريك صفيحية ما زالت تبنى حتى اليوم، “تكاد تكون هذه المقاطعة الوحيدة في الدار البيضاء التي ما زالت تشهد إضافة براريك صفيحية، إذ تمت إضافة عشرات البراريك في الانتخابات الأخيرة في دوار لمعلم عبد الله، كما بنيت أربعة محلات تجارية قصديرية مؤخرا في سوق “ولد مينة”، بعلم من السلطة المحلية وبموافقة من أحد المقدمين”، يوضح مسؤول في عمالة الحي الحسني ل”المساء”.
وما يزيد وضع الأحياء الصفيحية تعقيدا هو أن عددا من ملاك براريك فيها يتوفرون على وثائق تثبت ملكيتهم لها: “الأمر الذي يفسر كون غالبية الأشخاص الذين يتوفرون على براريك وعلى منازل عشوائية في الحي الحسني يملكون عقود تثبت ملكيتهم هذه المنازل هو أن مصالح مقاطعة الحي الحسني كانت “تتساهل” في المصادقة على عقود بيع وتنازل عن منازل صفيحية. قد ظلت هذه العمليات قائمة حتى بعد صدور مذكرة وزارة الداخلية في سنة 2009، والتي تمنع على مصالح تصحيح الإمضاءات المصادقة على وثائق بيع منازل صفيحية..
يصبح الوضع أكثر سوءا عندما يتعلق الأمر بالمصادقة على صحة عقود بيع منازل عشوائية في تراب جماعات أخرى أو حتى في عمالات وأقاليم، علما أن القانون يفرض على مصالح تصحيح الإمضاءات الالتزام بالتوقيع على وثائق تعاملات البيوع والتنازلات التي تتم في تراب العمالة التي توجد فيها مصلحة تصحيح الإمضاء لضبط الأمور أكثر”، يوضح مصدر “المساء”. وتشير وثائق حصلت عليها “المساء” إلى مصادقة موظفين في مصالح تصحيح الإمضاءات في الحي الحسني على عقود بيع وتنازل عن منازل تشير عناوينها ووضعيتها القانونية إلى أنها عبارة عن مساكن عشوائية. فمن بين 11 وثيقة تتوفر عليها “المساء”، وتتعلق بعقود بيع وتنازل عن عقارات توجد في جماعات قروية مختلفة، تتضمن وثيقة واحدة إشارة إلى الرسم العقاري للعقار موضوع البيع..
تتعلق جل هذه الوثائق، كما أسلفنا، بعقود بيع براريك ومنازل عشوائية، توجد في دواوير دار بوعزة وبرشيد وسطات والنواصر وتيط مليل والجديدة. كما أنه تمت المصادقة على كل هذه الوثائق بعد سنة 2010، أي عاما بعد صدور المذكرة الوزارية التي تمنع المصادقة على بيع المنازل العشوائية، حتى إن هناك وثائق تمت المصادقة عليها في الأشهر الأولى من سنة 2012 الجارية.
تشمل ست وثائق من بين الوثائق سالفة الذكر عقود بيع وتنازل عن قطع أرضية ومنازل و”حطات” في دواوير أولاد جرار والقرية الركالات وحارث حمري في دار بوعزة، وهي دواوير شُنّت عليها، قبل سنوات، حملات محاربة للبناء العشوائي، وتعد بمثابة حجرات عثرة حكمت على مشروع “الدار البيضاء بدون صفيح” بالإعدام.. رغم ذلك، ما تزال عمليات بيع وشراء لبراريك ومنازل بنيت بدون ترخيص وأراض في وضعية غير قانونية تتم حتى اليوم وتيتم المصادقة عليها في مقاطعة الحي الحسني أساسا.
ما يشير إلى أن هذه الوثائق تتعلق ببيع منازل عشوائية هو ما تضمّنته إحدى هذه الوثائق، والتي تشير إلى أن طرفي عقد البيع، المصادَق عليه بتاريخ 4 يناير 2012، لا يقطنان في الحي الحسني، فالبائع يتحدر من بوركون في الدار البيضاء ، بينما تشير بطاقة تعريف المشتري إلى أنه يقيم في أحد دواوير آسفي.. أما موضوع البيع فيشمل “محلا سكنيا” لا تتجاوز مساحته 46 مترا مربعا في دوار “حارث حمري” في دار بوعزة. تم بيع هذا العقار بثمن زهيد لا يتجاوز ثمانية ملايين سنتيم.
يشير عقد بيع آخر موقع بتاريخ 14 شتنبر 2011 إلى بيع “محل سكني” آخر لا تتجاوز مساحته 60 مترا مربعا، في دوار “القرية-الركالات” في دار بوعزة أيضا، أما ثمن البيع فلا يتجاوز 14 مليون سنتيم. ينطبق الأمر ذاته على عقود بيع أخرى تتوفر عليها “المساء”، وتتعلق ببيع قطع أرضية في دار بوعزة، يشير عقد إحداها إلى أنها لا تتجاوز ثمانية أمتار،.. بينما لا تتجاوز مساحة قطعة أرضية أخرى 260 مترا مربعا، وهذا ما يطرح علامات استفهام يكشف عنها موظف جماعي في جماعة دار بوعزة بالقول: “في الأصل، هناك عدد كبير من المحلات السكنية التي بنيت في تراب دار بوعزة، خاصة في سنتي 2002 و2003، وهي محلات عشوائية وتحتاج إلى تسوية قانونية وبالتالي تعد ضمن المنازل العشوائية التي يُمنَع بيعها. تشير وثائق التعمير، أيضا، إلى أن الترخيص للبناء في دار بوعزة يُمنَح فقط للأراضي التي تفوق مساحتها 1200 متر، حيث تبنى مساحة صغيرة ويبقى محيطها غير مبني، وبالتالي يمنع أي بناء تقل مساحة الأرض الواقع فيها عن 1200 متر، وبالتالي، ما معنى أن تتم المصادقة على بيع أراض وعقارات ومنازل تقل مساحتها عن المساحة القانونية المذكورة سوى أن الأمر يتعلق بإجراءات غير قانونية”؟..
“أحيانا، يتورط رجال السلطة المحلية في تلاعبات إدارية تشجع على البناء العشوائي في الحي الحسني، ومثال ذلك ما يقوم به قائد ملحقة الحي الحسني، والذي لا يفارق مكتبه، الذي يربطه بمقر سكناه في المقاطعة مسلك بني بطريقة عشوائية.. يتعمد إخبار تقنيين جماعيين أنه أجرى عمليات هدم في آخر لحظة، طالبا منهم التوقيع على محاضر الهدم دون أن يتأكد هؤلاء التقنيون من وجود هدم من عدمه”، يوضح مستشار جماعي في الحي الحسني.
تصير هذه الوقائع أكثر مدعاة للانتباه عند التدقيق في تفاصيل هذه الوثائق، ففي هذه اللحظة، تظهر حقائق تؤكد أن الأمر لا يتعلق فقط بأخطاء مهنية أو ب”سهو” أو “نسيان”..
شبكات المقاطعات
تظهر الوثائق التي تتوفر عليها “المساء” جزءا من الطرق التي يلجأ إليها موظفون جماعيون مكلفون بالمصادقة على الوثائق وتصحيح الإمضاءات، للتوقيع بصحة عقود بيع منازل عشوائية ضدا على القانون. هذه الطرق غاية في الدهاء والدقة، وتتمخض عن تجاوزات قانونية موجبة لعقوبات حبسية طويلة.
تكشف الوثائق، وبينها عقود بيع منازل وأكواخ صفيحية في دواوير الشلوح والبراهمة والهواورة في برشيد ودوار أولاد مسعود في تيط مليل، تعود كلها إلى سنتي 2010 و2011، تمت المصادقة عليها في مصالح تصحيح الإمضاءات في الحي الحسني، إلى جانب وثائق بيع وتنازل تشمل أكواخا وعقارات في دار بوعزة، إلى اعتماد الموظفين المصادقين على صحتها إجراءات غاية في المكر، إذ يعمد هؤلاء الموظفون إلى عدم التأشير بالأختام الرسمية التي تحمل أسماءهم ورقمهم التعريفي، “يحمل كل موظف مكلف بالتوقيع على صحة إمضاءات ومطابقة وثائق لأصلها وإجراءات بيع أو تنازل أو وكالة أو غيرها من الوثائق رقم تعريفيا خاصا به مكتوبا ضمن خاتم خاص، فضلا على ختم يحمل اسمه، وعلى كل موظف قام بإجراء إداري أن يختم هذا الرقم واسمه في الوثيقة التي شهد بصحتها، ويتحمل في ذلك مسؤولية قانونية، كما يُشترَط أن يكتب رقمه التعريفي على الخانة المخصصة للمعاملة التي يصادق عليها ضمن سجل خاص، وفق ترتيب تسلسلي يضبط الإجراءات القانونية التي تمر على يد مصلحة تصحيح الإمضاءات”، يوضح موظف في مصلحة إمضاءات في إحدى مقاطعات الدار البيضاء.
هذا هو الإجراء العادي إذن، لكنه إجراء لا يُحترَم في بعض الوثائق التي أشرنا إليها، إذ لا تضم بعضها اسم للموظف أو رقمه التعريفي. ويذهب التحايل أبعدَ من ذلك، وفق ما أدلى به شاهد ل”المساء”، عارف بخبايا مصالح تصحيح الإمضاءات، والذي يوضح أن موظفين يلجؤون إلى حيل ماكرة: “يعمد موظفون إلى إخفاء أسمائهم بطريقة ذكية عند مصادقتهم على الوثائق المشبوهة، إذ يطبعون بالأختام التي تحمل أسماءهم على الوثائق بطريقة لا تظهر بها أسماؤهم بوضوح. ويذهب بعضهم أبعد من ذلك، من خلال أختام أخرى أو طوابع بريدية فوق أسمائهم قصد إخفائها دون إثارة شكوك، ويبدو الأمر كأنه غير مقصود”، يوضح المصدر ذاته.
هذا ما تشهد عليه وثائق تتوفر عليها “المساء”، حيث يظهر بجلاء أن أسماء مصالح المصادقة على الإمضاءات تم إخفاؤها خلف أختام أخرى وطوابع.. ْلكن كيف يتمكن موظفون جماعيون مكلفون بتصحيح الإمضاءات من “اصطياد” زبائنهم الراغبين في المصادقة على وثائق تحوم حولها شبهات؟..
يجيب عن هذا السؤال مصدر “المساء” بقوله: “تجب الإشارة إلى أنه يمكن أن تقع أخطاء من طرف موظفين، نظرا إلى قلة خبرتهم، فهناك موظفون ألحقوا بمصالح تصحيح الإمضاءات، رغم أنه ليس لديهم تكوين قانوني، بل ليست لدى بعضهم شواهد أصلا، لأن منهم من قدم من الإنعاش الوطني وكان يشتغل في النظافة أو السياقة”.. هناك عشرات الموظفين الأشباح في الحي الحسني، والذين يختبئون داخل مصالح إدارية لا تعمل مثل الخزانة البلدية، حيث “يعمل” 20 موظفا جماعيا، بل إن أحدهم ويدعى “ع. ك.” لم يطأ قدمه أرض الخزانة منذ شهور وانصرف لبناء منزل بطريقة عشوائية. في ظل هذا الوضع، يتم الاضطرار لتوظيف أشخاص لا علاقة لهم بمصلحة تصحيح الإمضاءات أو بالإدارة أصلا. في أحيان أخرى يكون موظفو مصالح تصحيح الإمضاءات تحت ضغط كبير، خاصة أثناء خوض زملاء لهم إضرابات عن العمل، حيث يكونوا مُطالَبين بالمصادقة على عدد كبير من الوثائق في يوم واحد، وهنا أسرد على سبيل المثال واقعة مصادقة مقاطعة سيدي بليوط في الدار البيضاء، في سنة 2006، وخلال ثلاثة أيام، تمت المصادقة على ما يزيد على 30 ألف وثيقة”، يبرز المصدر نفسه، قبل أن يردف: “في المقابل، هناك موظفون يحترفون الاشتغال مع شبكات، بالمعنى الدقيق للكلمة، للمصادقة على وثائق فيها تدليس مقابل عمولات كبيرة، وهذا ما يفسر لجوء مواطنين من مناطق عدة إلى المصادقة على وثائقهم هنا”.
يكشف المصدر ذاته طريقة اشتغال بعض هؤلاء الموظفين مع شبكات تحترف اصطياد مواطنين يرغبون في المصادقة على وثائق إدارية مشبوهة، إذ يتخصص وسطاء في العثور على هؤلاء المواطنين الزبائن” وفي “التنسيق” مع موظفين، حيث تتم إجراءات المصادقة في الخارج. “في بعض الأحيان، ينتشر هؤلاء الوسطاء داخل مقر المقاطعة أو في محيطها، وعندما يرمقون مواطنا عليه أمارات تيه، حيث يظل يمشي ذهابا وإيابا في ممرات المقاطعة، يتوجه نحوه الوسيط بالقول: “خاصك شي حاجة”؟.. وعندما يشرح له المواطن الأمر، يتصل بالموظف ويحدد معه موعدا في مقهى في الخارج، حيث يتسلم منه الوثائق و”يتفاوض” معه حول مقابل هذه العملية، قبل أن يضرب له موعدا يسلمه فيه وثائقه مصادقا عليها. وأحيانا تكون المصادقة على هذه الوثائق غير دقيقة إذ لا تضم الأختام الخاصة بالمقاطعة والرقم التسلسلي للعملية، وهو ما يعني أن العملية غير موثقة أصلا في سجل مصلحة تصحيح الإمضاءات”، يبرز الموظف نفسه، قبل أن يضيف: “في أحيان كثيرة، يستعمل موظفون أختاما مزورة أو أخرى مسروقة من داخل مصالح الإدارة، وهنا أشير إلى واقعة حدثت قبل حوالي أسبوعين بإحدى مصالح المصادقة على الوثائق في الدار البيضاء، حيث تمت سرقة خاتم تصحيح إمضاءات ولم يعثر له على أثر إلى اليوم”.
ضباط حالة مدنية يوقعون وثائق على بياض و«مقدمون» يتلاعبون بشواهد ميلاد
ليست مقاطعة الحي الحسني، والتي تشهد غيابا للسلطة المحلية، وحدها التي تشهد اختلالات إدارية «تورّط» موظفين جماعيين في تلاعبات بوثائق عليها أختام الدولة. فالأمر ذاته يقع في تراب مقاطعات أخرى في الدار البيضاء، حيث تتوفر «المساء» على وثائق مُصادَق عليها داخل مصالح إدارية لملحقات إدارية، بينها الملحقة الإدارية «بنجدية»، تتعلق بتفويت منازل صفيحية.
تشهد ملحقات إدارية في مدن أخرى على وقائع مماثلة، مع فرق أن الإجراءات الإدارية التي تكون محل تلاعب تشمل تعاملات تشهدها هذه المدن بشكل كبير، مثل خريبكة، حيث تجري يوميا عشرات التعاملات التجارية لبيع سيارات مُستعمَلة، رغم أن القانون يحدد شروطا خاصة في مثل هذه العمليات.
غير أن جل المدن تشترك في عدد كبير من التعاملات الإدارية التي ترتبط مباشرة بالمواطن، والمتعلقة بوثائق ولادته ووفاته وخطوبته وعزوبته واحتياجه.. وهي تعاملات محل تلاعبات كبيرة.
قبل أيام، سادت حالة استنفار على صعيد ولاية جهة الدار البيضاء الكبرى وعدة عمالات فيها، إثر افتضاح أمر تسريب وثائق رسمية فارغة عليها أختام الدولة، وثائق تتعلق بشواهد إدارية موقعة على بياض وكُتِبت فيها تواريخ معينة، لكنها غير مملوءة. وتتوفر «المساء» على إحدى هذه الوثائق، عبارة عن «شهادة الحياة الجماعية»، وتحمل خاتم قسم الحالة المدنية في مقاطعة عين السبع. هذه الوثيقة موقعة وممضاة من طرف ضابط الحالة المدنية وبتفويض منه، والمؤرخة بتاريخ 24 فبراير 2012، لكنها فارغة ولا تحمل اسم طالبها وأسماء الأبناء الذين يُصرِّح بأنهم ما يزالون على قيد الحياة، وهو ما يعني أنه يمكن لأي شخص أن يدلي بمعلومات خاطئة من خلال تعبئة هذه الوثيقة ويخلق خلطا كبيرا لدى الإدارات التي قد تطلبها. تشهد على الأمر ذاته وثائق إدارية أخرى وشواهد رسمية فارغة مُسرَّبة من عمالة مولاي رشيد وموقعة على بياض، تم تداولها على نطاق واسع عبر الأنترنت.
لكنْ، كيف وصلت هذه الوثائق الفارغة إلى أيدي أشخاص غير معنيين بها؟.. أجاب مصدر مسؤول في ولاية الدار البيضاء عن هذا السؤال بقوله: «السبب في ذلك هو أن بعض الموظفين المكلفين بإجراءات إدارية ينقلبون إلى موظفين أشباح ويتغيبون عن العمل باستمرار، لذلك يلجؤون إلى تكليف بعضهم البعض بالقيام بعمليات إدارية، رغم أنها ليست من اختصاصهم، حيث يسلم الموظف المتغيب سجله لموظف آخر ويوقع له على شواهد على بياض يقوم الموظف البديل بتعبئتها لمن يطلبها، دون أن يعلم أحد بغياب الموظف الموكول له أصلا تعبئتها. هذا التناوب في المشروع معمول به على نطاق واسع في مختلف المقاطعات والملحقات الإدارية في المغرب، حيث يكثر الموظفون الأشباح.. ولكن هؤلاء لا يعلمون خطورة ما يقومون به، فلنفترض أن شبكات مختصصة في بيع الرُّضّع حصلت على شهادات ولادة فارغة، كما وقع قبل سنتين في مقاطعة «لاجيروند»، وقام أفراد هذه الشبكة بتدويل أسماء هؤلاء الرضّع عليها ونسبهم إلى آباء «مفترضين»، ألن يوقع ذلك الموظف المتغيب في ورطة حقيقية؟!..
أحيانا كثيرة، يلجأ أعوان سلطة، بدورهم، إلى التلاعب بشواهد الولادة هاته مقابل رشاوى، حيث يُدْلون بمعطيات مغلوطة بشأن ولادة أطفال تمت خارج الدائرة التي يشرفون عليها، ومع ذلك يحررون شواهد ولادة لهم. هذا ما يحدث بالضبط في مقاطعة الحي الحسني في الدار البيضاء، وتؤكده وثيقتان تتوفر عليهما «المساء»، تتعلق أولاهما ب»شهادة إدارية للولادة» صادرة عن الملحقة الإدارية الحي الحسني، وموقعة بتاريخ 7 شتنبر 2011، يشهد فيها قائد الدائرة بأن طفلا ولد بتاريخ 14 غشت 2011 في دائرة الحي الحسني، بناء على بحث أجراه مقدم يدعى «م. ع.»، تم فيه الإدلاء بمعلومات مغلوطة، إذ تشير الوثيقة الثانية، وهي عبارة عن شهادة ولادة صادرة عن مستشفى في مكناس، إلى أن الطفل المذكور وُلِد في مكناس بتاريخ الولادة ذاته المشار إليه، ما يعني أنه يجب، قانونيا، تسليمه شهادة ولادة في الدائرة التي ولد فيها، أي بمكناس، أو سلك مسطرة أخرى أكثر تعقيدا.
في الوقت الذي لم يتم توقيف هذا «المقدم» إثر العمل الذي قام به، فإن «مقدما» آخر في ملحقة إدارية تحمل أيضا اسم الحي الحسني، ولكنها توجد في مقاطعة المنارة في مراكش، تم إيداعه سجن «بولمهارز» في المدينة ذاتها في نهاية شهر فبراير الأخير، بعد ثبوت تورطه في تزوير وثائق رسمية، قام بناء عليها بتسجيل طفل في قائمة أبناء أحد المواطنين.
الراشيدي: تزوير الموظف العمومي محررات إدارية يتراوح بين الجناية والجنحة
المحامي في هيأة البيضاء قال إن العقوبة تصل إلى 20 سنة سجنا وتشدد إذا انتمى إلى عصابة متخصصة في ذلك
في هذا الحوار، يسلط بوشعيب الراشيدي، المحامي في هيأة الدار البيضاء، الضوء على التعامل القانوني مع الموظفين العموميين الذين يثبت تورطهم في تزوير محررات إدارية، كما يعرض لأنواع الجنايات والجنح التي يمكن أن يرتبكها موظفون عموميون مُكلَّفون بالمصادقة على وثائق وتصحيح إمضاءات، إلى جانب رجال السلطة الذين يُدْلون بمعطيات كاذبة.
– كيف يتعامل القانون مع التلاعبات التي يقوم بها موظفون عمومية وتشمل وثائق رسمية؟
لقد أفرد المشرّع المغربي لجرائم التزييف والتزوير قسما خاصا بها ونظم أحكامها في الباب السادس من الكتاب الثالث من المجموعة الجنائية المغربية، مخصصا كل فرع من الفروع السبعة التي يتوزع عليها لنوع من الجرائم التي تُرتكَب في هذا الإطار. وهكذا خص الفرع الثالث من الفصل ال351 إلى ال356 من القانون الجنائي للتزوير في الأوراق الرسمية أو العمومية، كما تطرّقَ الفرع الرابع، الخاص بالتزوير، إلى جانب الفصل الخامس المتعلق بتزوير أنواع خاصة من الوثائق الإدارية والشهادات، ضمن الفصول من ال360 إلى ال367 من القانون الجنائي، وهذه الفصول هي التي تهُمُّنا في الموضوع الذي طرحته.
فالتزوير في المحررات، وكما عرفها المشرع في القانون الجنائي، هو تغيير الحقيقة فيها بسوء نية، تغييرا من شأنه أن يتسبب في ضرر. كما أن المشرع حدد العناصر التي تحدد جريمة التزوير، وهي أن يكون التزوير قد طال محررا كتابيا كيفما كانت اللغة التي كُتِب بها، وبالطرق التي حصرها المشرع في القانون الجنائي، دون غيرها، حتى لا يكون تعسفا خارج القانون، ومن شأن هذا التغيير أن يُحدِث ضررا للغير، إضافة إلى وجود الركن المعنوي، المتمثل في توفر سوء النية.
تجدر الإشارة إلى أن المشرع قد فرّق بين المُحرَّر الرسمي والمُحرَّر العرفي، فالمحرر الرسمي هو كل محرر يعود الاختصاص في تحريره إلى الموثق أو العدل أو القاضي أو الموظف العمومي (وهو الذي يهمنا هنا)، بينما المحرر العرفي هو المحرر الذي ينجزه غير الأشخاص المذكورين.
في المقابل، فإن الاجتهاد القضائي لا يجعل المحرر العرفي يرقى إلى درجة المحرر الرسمي أو العمومي، وبالتالي فإن المحرر العرفي هو المحرر الذي يكون صادرا عن غير الموثق أو العدل أو القاضي أو الموظف العمومي، وإن كان المُشرّع المغربي قد أعطى مفهوما واسعا للموظف العمومي، إلى جانب الشروط المذكورة في ظهير الوظيفة العمومية.
يقع هناك تزوير في أنواع خاصة من الوثائق الإدارية والشهادات، وهي أمور استفحلت في المجتمع المغربي، ويتورط فيها موظفون عموميون، حيث أصبحنا نلاحظ حصول مواطنين عاديين على وثائق تحمل طابع وخاتم الإدارات العمومية وهي فارغة، إذ يمكن لأي شخص ملؤها واستعمالها دون معرفة نتائج وعواقب ذلك..
وقد فطن المُشرّع المغربي إلى كل هذه التلاعبات وخصص لها فرعا يحدد نوع الجرائم والعقوبات التي تُطبَّق على مرتكبيها، وهكذا فإنه قد عاقب كل شخص ثبت في حقه أنه زيف أو زور أو غيّر في الرخص أو الشهادات أو الكتيبات أو البطاقات أو النشرات أو التواصيل أو جوازات المرور أو في كل وثيقة أخرى تصدرها الإدارات العمومية. بل أكثر من ذلك، فقد يعاقب الشخص الذي استعمل كل هذه الوثائق بنفس العقوبة المفردة لمرتكبها، شريطة أن يكون عالما بزوريتها.
– كيف يمكن التمييز في العقوبة انطلاقا من مستوى ضلوع الموظف العمومي في المشاركة في تزوير محررات إدارية، أي كيف يمكن التعامل القانوني معه في حال تحتمت معرفة ما إذا كان فعل ذلك نتيجة خطأ أم بسبب ضلوع في الانتماء إلى عصابة متخصصة في تزوير الوثائق الرسمية؟
عندما يضع القانون أو المشرع قانونا، فإنه يكون مجردا، لأن القواعد القانونية تكون عامة ولا يمكن تخصيصها. وبالنظر إلى ما سبق توضيحه في ما يخص القوانين الزجرية والعقوبات المخصصة لذلك، فإن المُشرّع يحيلنا، دائما، إلى فصول معينة وعقوبات مخصصة لها أو مفردة لذلك، فالمحررات الصادرة عن الموظف أو الموثق أو القاضي أو العدول هي محررات رسمية وعقوباتها جنائية تتراوح بين 10 و20 سنة سجنا، في حين أن المحررات العرفية تكون عقوبات التلاعبُ بها عبارة عن جنح تتراوح عقوباتها بين 3 أشهر و5 سنوات، وفي ما يخص المصادقة على العقود بالنسبة إلى العقارات العشوائية والتعاملات البنكية المشبوهة، فإن الاجتهاد القضائي يقول إن مجرد تصحيح الإمضاء أو المصادقة عليه لا يرقى إلى أن يكون محررا رسميا، وإنما هو محرر عرفي تكون العقوبة عنه في إطار الجنح.
أما بخصوص طبيعة الجرم، وإن كان قد ثبت انتماء الموظف العمومي إلى عصابة متخصصة في تزوير المحررات، فإن القاعدة هي أن على المتضرر أن يُثبت الضرر الذي لحق به وليس الموظف، وإذا ثبت الضرر فالقانون يفرد عقوبات رادعة، وهذه العقوبات تكون مشددة في حال اقتران مرتكبها بصفة موظف.. أما في حال ضلوع الموظف في الانتماء إلى عصابة أو تشكيلها، فإن الأمر يرتقي إلى مستوى الجناية. المسألة دائما مرتبطة بإثبات الضرر وبطبيعة المحررات، إن كانت رسمية أو عرفية.
– أين يمكن أن نصنّف الشهادات الإدارية التي تمنح للمواطنين، مثل شهادة السكنى أو شهادة الاحتياج أو شهادة العزوبة.. أو تلك التي تسلم بناء على الأبحاث التي يقودها رجال السلطة، من «مقدمين» و«شيوخ»، والتي يمكن أن تتضمن معلومات غير صحيحة؟
أعتقد أن مقتضيات الفصل ال361 من القانون الجنائي تسعفنا في هذا الإطار، إذ إنه قد عاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات كل من توصل بغير حق إلى تسلم إحدى الوثائق الإدارية عن طريق الإدلاء ببيانات غير صحيحة أو تقديم معلومات أو شهادات أو إقرارات غير حقيقية، إذ في هذه الحال فإن كل المعلومات أو الشهادات التي يقدمها «المقدمين» و«الشيوخ»، والتي يمكن اعتبارها بيانات ومعلومات غير صحيحة، يتحمل فيها هؤلاء المسؤولية، بل إن المشرع المغربي شدّد على هذه العقوبة إذا تعلق الأمر بموظف سلم تلك الوثائق وهو يعلم أن فيها معلومات كاذبة لشخص بعقوبة حبسية من سنة إلى أربع سنوات.
إلا أنه رغم كل العقوبات الزجرية والآلية القانونية المذكورة، فإننا نلاحظ عدم وجود رادع يحد من الظاهرة، وذلك راجع إلى كون العقوبات المحددة لا تتناسب والأفعال المرتكبة، إضافة إلى غياب مراقبة مستمرة لتلك الوثائق، خصوصا أن العمل في الإدارات العمومية ما يزال يتم بوسائلَ تقليدية، في ظل عدم تفعيل أنظمة إلكترونية للتوصل وتسليم تلك الوثائق، رغم المجهودات المبذولة في هذا الإطار.