مراسلون 24 – متابعة.
بعد تجربته الشعرية المتميزة في “الصحو مثير للضجر”، أصدر الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس كتابه الشذري الموسوم ب”حبل قصير للمشنقة”؛ الذي صدّر افتتاحه بجملة شعرية لمحمد الماغوط ورد فيها “أنا قطعا ما كنت مربوطا إلى رحمي بحبل سرة بل بحبل مشنقة”.
في هذا الإبداع الشذري الجديد نلمس كيف يتم تحويل الذات إلى مجال للتفكير والتأمل والمساءلة، نجد أنفسنا أمام ذات متصدعة، منشطرة على نفسها، مسكونة بقلق الوجود، يقول الناقد محمد شداد الحراق عن الكتابة الشذرية في تشظيات كوكاس: “لقد عوّدنا الأستاذ كوكاس في كتاباته أن يأسر قارئه ويلقي به في دهاليز الإثارة وفي سراديب المتعة، فلا يخرج منها إلا وقد امتلأ أسئلة ولذة ورغبة في العودة من جديد لاقتناص المزيد”.
حينما تقرأ شذرات الأستاذ كوكاس تجرفك سيول الفضول نحوها بقوة، وتدعوك هواجس البحث والكشف والوصف لامتطاء صهوة القراءة العميقة التي تتسلل عبر الفجوات، وتكسر نظام التراكيب النحوية البسيطة والقوانين اللغوية الموروثة، وتعْبُر نحو ضفة المسكوت عنه الذي ظل متواريا تحت ظلال الكلمات المخطوطة وفي ثنايا العبارات المرصوفة..
أدب كوكاس يحتاج ذاك القارئ العميق أيضا الذي لا يكتفي بالسطح، ولا يقنع دون التقاط الأسرار المنتقبة خلف جدار الإستعارات وفي كواليس الانزياحات، ولا يمل من قطف أزهار الأفكار الثائرة المتمنعة التي تأبى الخضوع بسهولة في يد من يلمسها بحنو..
كتاباته “لوحات فنية جريئة تمتلك سلطة خارقة لجمع كل القطع الممكنة وتوظيفها ببراعة الفنان المقتدر الأنيق لصناعة جمال الكلمة وتحقيق سحر التعبير لحظة الإبداع وخلق المتعة الفنية ولذة القراءة لحظة التلقي”.
تتميز شذرات “حبل قصير للمشنقة” بكونها كتابة زئبقية، متشظية تطارد ظلال المعنى، تبتهج بالمتواري خلف المعاني العامة، ترسم خرائط الصمت بابتهال كبير، ولا تطمئن لوثوقية الجاهز المطروح للتداول في الشارع العام، يقول كوكاس في سياق تعريفه للشذرة في سياق آخر: “الكتابة الشذرية مثل قطع صغيرة من ذهب لها فرادتها وتفردها عن الكتابة المعهودة في التواصل العادي أو في الكتابات النسقية المألوفة، هي قطع صغيرة كرؤوس النمل من ذهب الروح، لآلئ وجواهر خالصة ترصع البياض بنشوة الفرح، لخفتها وسرعتها تسخر بمرح من العابر واليومي، تتفرق شذر مدر على بياض الصفحة راسمة مفازات التيه لمن يولع بجمع نثار الدرر بدل ما تساقط من كلام.. لأن الكلام جماعي والشذرة فردية موجهة لانتهاك حرمة المقول والمتماسك وتفكيك اليقينيات.. لا شذرة تكتب في حضرة الوعي أو بتأمل العلاقات بين الأشياء في حدود تمظهرها الخادع، في الشذرة ننطلق مما حولنا، لكن شيئا خفيا وعميقا فينا هو الذي يحدد العلاقات الملتبسة بين الأشياء بوضوح جلي في لمحة بصر، ثم يذوب في الغموض”..
نقرأ في “حبل قصير للمشنقة” الصادر حديثا عن منشورات النورس: في شذرة “كشف حساب خارج التوقعات”:
أنا أصير يوما عن يوم إلى ما لست عليه، شيء ما داخلي يهجرني بالتقسيط المريح.. أقصد ما كنته، لأن ما حلمت أن أكونه دائما له رؤيته الخاصة، رؤيته المغايرة لما أنا عليه، صراع الانبثاق والانطفاء داخلي بلا حدود..ما كنت أعتقد أنه صلب جوهري، لا أدري ما هو على وجه التحديد، المفكر في أو ما يملأ إحساسي بجدوى أن أستمر في الحلم، أو ما يجعل ذاتي منطبعة ببصمة التجريد، أي ذلك التجسيد الصوري لأناي، أو ما يبرر سعيي نحو كمال وجودي.. أو شيء من هذا القبيل!
إن مجرد انفجار هذه الفكرة في دماغي، حتى ولو كانت مجرد سؤال ميتافيزيقي أو نزوة رومانسية لا تليق برجل “عقلاني” مثلي، يدفعني إلى الإحساس أنني بحجم ما أراه.. كبيرا في الشكل صغيرا في المعنى، كي لا أقول تافها، من جهة لأنني لا زلت أُكن قليلا من الاحترام لما كنت عليه، ومن جهة أخرى لأنني أخشى أن تنتابني هلوسات تجعلني على
حافة الجنون”..
كتاب حبل قصير للمشنقة الصادر عن منشورات النورس يقع في 181 صفحة وصمم غلافه المخرج الفني المبدع توفيق القزماني، يعتبر تعميقا للعمل الشذري الأول لعبد العزيز كوكاس “الصحو مثير للضجر”.