محمد فؤاد قنديل
من الصور المضحكة التي استطاعت أن تحجز لها مكانا في ذاكرتي، منذ بلوغي سن السادسة. حلقة من سلسلة عادات كررت ممارستها، بعدد ارتخاء أسناني اللبنية وسقوطها الواحدة تلو الأخرى، لتفسح الطريق أمام ظهور أسنان الكبار القوية. كان أمل والدتي رحمها الله، أن اضحك عند كبري ملء شدقاي، وأنا منشرح، بنخوة صاحب الابتسامة اللامعة، التي تظهر تناسق أسناني وانتظامها وبياضها. وكان مبلغ التمني أن تتوسط فمي فلجة طفيفة تشكل فراغا بين القواطع العليا لأسناني، حتى أكون شخصا “زينو مبروم والفلجة واتاتو”. و أنال حظي من الوصف، وخصوصا التغزل بي في مجالس المعجبات.
الأمر لا يستقيم إلا بنهوضي باكرا، وصعودي سطح المنزل، ميمما وجهي نحو القبلة، مركزا نظري نحو قرص الشمس، حاملا سني الضائعة، متفوها بكلمات تشبه التمنيات” هاك سن الحمار وأعطيني سن الغزال”. قاذفا السن في الهواء “وذنوبي على راسي” إذا لم أحسن الفعل. و”للي دارها بيديه يفكها بسنيه”. فكم مرة ضاع مني السن قبل التخلص منه، ولكم طلبت سن الحمار ورميت سن الغزال. لتزداد الشكوك، حول مستقبل جمالي المنشود.
كانت بعض البنات تتوسلن ب” هاك سن الجاموس وأعطيني سن العروس”. حتى إذا ما ترصدتها عين “الخطابة” المتربصة بها وهي في “الكلسة” بالحمام، وناولتها حميمصات، بذريعة “ترد الريق” نجحت العروس المنشودة في الاختبار الصعب، بطحن الحمص باسنانها الصلبة.
وهاهي صاحبة ضربة حظ، اضحت صاحبة الحسن والجمال، بأسنانها اللامعة، لكن تمنعها أردى صاحبنا ولهان يهذي متغزلا:
يا با حتى الطالب باطلة صلاتو***ما خلاتو حتى يقلب وريقاتو
خدها يشبه بلعمان فنباتو***والفم ظريف والفلجة واتاتو.
ترى هل هو صادق، أم هي نزوة عابرة لاستمالتها ” فالسن تضحك للسن والقلب فيه لخديعة. العين عجبتها سوسن والقلب بغا وديعة.”.
هكذا كنا نطلب سن الغزال” نديرو النية ونعسو مع الحية”. غير أنني في الحقيقة، كنت أنام مع الشيطان لجهلي بأن النفع والضر والعطاء والمنع هي من عند الله وحده، و أن واجبي كان يقتضي إنكار هذه الأفعال لقدحها في جناب التوحيد. لم أعلم بذلك إلا حينما أشتد عضدي، فعلمت أن جدور هذه العادة يمتد لحضارات قديمة كانت تقدس الشمس.
وكعقاب على ذلك، كان بعضنا يحظى بفم “مسندر” فينعت ب”بوسنادر” لأن أسنانه التفت في نفس الموقع من الفك، بشكل متداخل. و زادت السوسة من جراحه، ليحمل العلامة الكاملة “المصيبة وصاحبتها”، وينعت بأقدح الاوصاف عندما يشتد التلاسن بينه وبين زوجته المتهكمة، فتنهره: “سد دركومك الشارف الهارف”. بينما جارتها تقول لمول الدار “النكار”: ” إوا سد دلقومك أ رايب الفم” نكاية بفمه الأدرد الذي أسقطت أسنانه كلها. أما صاحب الفم اللاذع الكلام “فمو خانز” فيطلب منه ببرودة “يسد خربتو أو يسد كابينتو”.
كان استبدال تاج السن بقطع مصنوعة من الذهب والفضة ببعض المناطق تعبر عن الحالة المادية الميسورة، ووسيلة للإدخار.
ولكن ما دخل الحمار في كل هذا، وهو المنشغل بالبردعة والشواري، هذا الوديع، الوفي ، الذي لا يفهم إلا في المزاح مع أقرانه، وقيل في براءته” مزاح الحمير، عضان ورفيس وحفير” . وللتاريخ لم يتعرض حيوان لمثل ما عرفه”مقلش الودنين” من سب وشتم وتهكم وظلم. لماذا نعامله كالحمار. نقحمه عنوة في كل مشاكلنا “فهذا ضربو حمار الليل”و هذاك الكسول الذي لا يستطيع الإجابة “مات حمارو”، وذلك المغني الفاشل”كينهق كيف الحمار”. وصديقنا” لي ربط حمارو مع الحمير، حتى تعلم الشهيق والنهيق والخروج على الطريق” ترى كيف ستكون نفسيته لو يعلم المسكين أنه فعلا حمار.
وقصتي مع الحمير “نعاودها لحفار قبري”. فعندما كنت مداوما رسميا على أكل سندويتش الصوصيص عند صديقي الغير عزيز. كانت مداومتي اليومية تمتد لسنوات، تستهل بنصف وعشر صوصيتات حارة ولذيذة تنضاف لها عشر أخر. بمعدل ربع كيلو يوميا. اطحنها باسناني القوية. حتى اكتشفت أن صاحبنا يبيع لحم الحمير. وبعملية حسابية خلصت أنني قد تناولت أكثر من ثلاثة حمير بأمعاءها وراسها وفراقشها، وحتى جلدها وزغبها وأسنانها. لعلها لعنة الحمير التي كنت ارمي أسناني نحو الشمس، شاتما لها، أضحت شامتة في.
من مشاهد الرعب التي عاشها سلفنا، قبل تطور مهنة طب الأسنان و اختراع المسكنات من الألم و أدوية التخدير، تلك الليالي البيضاء التي قضوها يتضورون وجعا من ألم ضرس تكسرت أو نخرها التسوس، ولم تنفع معها أعشاب وخلطات. وبقي ملاذه الوحيد صوب كرسي مرمم الأسنان. هذه المهنة التي كان يختص بها بعض الحلاقين. حيث تقلع الأضراس بالكماشة الحديدية التي تسمى بالكلاب.في غياب آلات ومعدات ومواد مخدرة. فكل العملية تتم يدويا، باستعمال جلد الضفادع المسكنة، لو توفرت. ونحمد الله أن هذه الحرفة في طريق الانقراض، اللهم بعض المستمرين في الأسواق الأسبوعية. الذين يدافعون عن شرعيتهم متذرعين بالسبق التاريخي.