حرق العلم أم حرق الأرض وإبادة شعب .. أيهما أحق بالحماية ؟!

نادية الصبار – كاتبة رأي وناشطة مدنية

حين يتم تحريك شكاية على مقاس “ما يجوز وما لايجوز و انا أتصفح على منصة ميتا، استوقفتني شكاية منشورة على الصفحة الرسمية للجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع بالدار البيضاء، والتي تقدمت بها ناشطة مغربية تدّعي الدفاع عن القانون والكرامة الوطنية، تطالب من خلالها التحقيق وترتيب الجزاءات القانونية على خلفية واقعة حرق علم إسرائيل أمام البرلمان المغربي خلال مسيرة شعبية. نعم، علم إسرائيل!، الدولة التي حوّلت غزة إلى مقبرة، وأهلكت الأرض والزرع ونسفت النسل، وأقبرت الأطفال تحت الأنقاض!..

يقول نص الشكاية إن حرق العلم “يضرب في المواثيق الدولية”، و”يزعزع الشعور الوطني”، بل وتجرأت صاحبته على القول إنه “يسيء لمشاعر اليهود المغاربة”. وهنا لا بد أن نقول بوضوح: لسنا ضد اليهود، ولا ضد اليهودية، لا من قريب ولا من بعيد. واليهود المغاربة مكون من مكونات الهوية المغربية، ولكننا ضد المشروع الصهيوني الغاشم.

ولا مجال للركوب على الموج لتبرير الماء العكر وتببيض وجه الاحتلال الغاشم، لاسبما وأن حرق الأعلام خلال الاحتجاجات فعلً رمزيً يُعبّر عن رفض شديد لسياسات دولة معيّنة أو لممارساتها في حق الشعوب، خاصة عندما ترتبط تلك الدولة بالاحتلال، أو القمع، أو الإبادة الجماعية. ولا يُقصد منه البتة كراهية الشعب أو الدين المرتبط بذلك العلم، بل يُوجَّه إلى السلطة السياسية وما تمثله من ظلم أو عدوان.

ففي العديد من السياقات، يُعد حرق العلم شكلًا من أشكال حرية التعبير السياسي، ورسالة بصرية قوية تهدف إلى هز الضمير العالمي وتسليط الضوء على قضية عادلة. لكن هذا الفعل كثيرًا ما يُشوَّه أو يُستغل لتوجيه اتهامات زائفة كمعاداة السامية أو التحريض، مع أن مضمونه في واقع الأمر هو صرخة ضد الظلم، لا ضد الهويات أو الأديان.

أعي أن حرق الأعلام قد يُثير الجدل، وأن بعض القوانين قد تعتبره مخالفًا للنظام العام أو مهينًا، لكن هل يمكن فعلًا مقارنته، أخلاقيًا وقانونيًا، بما يحدث في غزة؟ حيث يُباد شعب بأكمله، ويُجوّع، وتُقصف مستشفياته، وتُمنع عنه المساعدات، وتُستهدف مدارسه وأطفاله؟ أي ميزان هذا الذي يجعل من حرق قطعة قماش قضية أكبر من تدمير أحياء كاملة على رؤوس ساكنيها؟!

القانون الدولي واضح، وجرائم الحرب والإبادة الجماعية ليست تعبيرًا رمزيًا، بل وقائع تُوثَّق بالأرقام والصور والشهادات. وقد سبق وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف ضد مسؤولين إسرائيليين على رأسهم نتنياهو ووزير دفاعه، بتهم تتعلق بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. وكذلك تقارير الأمم المتحدة ما فتئت تكرر منذ سنوات وصف ما يجري في الأراضي الفلسطينية بانتهاك ممنهج ومستمر للقانون الدولي الإنساني.

ثم هناك ملف آخر لا يقل خطورة، فقبل الحرق هناك خرق لاتفاقيات الهدنة وفي شهر رمضان، وماذا عن مشاعر المسلمين، ام أننا كمسلمين نعيش بدون مشاعر.. كما أن الهدنة ليست مجاملة سياسية، ولا ترفا دبلوماسيا، بل التزام قانوني يهدف إلى حماية أرواح المدنيين وضمان الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية في زمن الحرب. لكن إسرائيل لم تلتزم بها، بل استغلتها مرارًا لتوسيع هجماتها، أو لمنع وصول المساعدات، أو لتثبيت وجودها في مناطق معينة. وهذا وحده يُعد خرقًا واضحًا للبروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف.

أنا لا أبرر الحرق من أجل الحرق، ولا أنا أدافع عن المسيرات الحاشدة أو ادافع عن الجهات وراء إحراق العلم ولا أنادي بالفوضى، لكنني كناشطة مدنية إن حق لي أن أدعي ذلك، أرفض أن تتحول رمزية العلم إلى ذريعة لتكميم أفواه الغاضبين من الإبادة. فالعلم ليس مقدسًا إذا كان يُرفع فوق الدبابات، ولا يُحترم إذا غُرس على أنقاض بيوت محترقة وحقوق منتهكة.

وهنا أتساءل، أين واقعة خرق القانون الدولي والأعراف الكونية حين يُحرق علم، على رمزيته وعلى علاته فهو قطعة “قماش”، أم الخرق بعينه حين تحرق قوات الاحتلال شعبا وتغتصب أرضا، وتخوض باستمرار حربا هوجاء ضد المدنيين والأطفال؟ وتقصف الملاجئ والمدارس والمستشفيات وتمنع وصول الإعانات والمساعدات وفرق الإغاثة؟ أن تقوم بالتقتيل والتجويع وتشريد العائلات ودفعهم نحو التهجير القسري؟ أيهما يخالف القانون والأعراف، أم أن قوات الاحتلال ألبست لباس الطهارة والقداسة؟! فهل الإبادة صك غفران، وهل الشهداء ودماؤهم قربان؟!

ما معنى أن نُلاحق من يرفع صوته دفاعًا عن الضحايا، بينما لا يُفتح تحقيق واحد في محرقة غزة؟ ما معنى أن نستنفر كل قوانا لإدانة حرق قماشة عليها علم إسرائيل، بينما تُحرق قلوب آلاف الأمهات في رفح وخان يونس ودير البلح؟

ولماذا علينا أن نكون إسرائيليين أكثر من الإسرائيليين أنفسهم؟ بعضهم يعترف بالجرائم، وبعضهم يرفض الحرب، وبعضهم يمزّق جواز سفره، بينما “ناشطتنا الموقرة” لم ترى الجثث ورأت علما يحرق؟!

القضية ليست دينية، ولا قومية، إنها قضية إنسانية، قضية حق شعب في الحياة، في الكرامة، في تقرير المصير. ومن العار أن تُحشد أدوات القانون لتكميم الغضب المشروع، عوض مساءلة كل المسؤولين عن هذا الجرم الشنيع مع التنديد ضد الصمت، ضد السكوت، ضد الخذلان.

أيتها المواطِنة صاحبة الشكاية، لا يجب أن نخلط بين اليهودية كديانة والصهيونية كمشروع استعماري، ولا يجب أن نُستخدم كمغاربة – نحن الذين خرجنا لندافع عن الحق والحرية والعدالة – كورقة ضغط لإسكات كل احتجاج شرعي ضد الوحشية. فحرية التعبير، حين تتعلق برفض الاحتلال، ليست تهمة، بل شرف. وحري بك أن تزعجك “محرقة القرن”، وأن تزعجك أشلاء الأطفال المتناثرة وأشلاء الجثث أكثر؟ إن كان لا بد من شجاعة، فقولي: أنا ضد إبادة شعب، لا ضد حرق العلم!

وانا معك من حيث المحاسبة والملاحقة القانونية، فلتبدأ من هناك، حيث تُباد أُسر عن بكرة أبيها، لا من هنا حيث تُحرق الأعلام. وما معنى العدالة في وجود الضحايا؟ وما جدوى القانون إن لم يُحاسب القتلة؟ قولي سيدتي صاحبة الشكاية: أنا ضد حرق الشعب، لا ضد حرق العلم! وإلا فاسمحي للآخرين بأن يعبروا عن غضبهم، فإنهم لا يملكون إلا الغضب !