تثمين الرأسمال البشري :” الشباب و التكوين المهني نموذجا”..

**إعداد: يوسف الشفوعي.. (باحث في التنمية الاجتماعية و الشباب)

التنمية كمفهوم شامل عرف حضورا قويا في البرامج الإجتماعية و الاقتصادية و السياسية منذ أواخر تسعيتات القرن الماضي، و زاد حضورا مع العهد الجديد  كمدخل أساس و محور كل تغيير منشود، و قد صاحب عملية التنمية مع العهد الجديد أطلاق أوراش كبرى تروم إعطاء المواطن المكانة اللائقة و ضمان الحد الأدنى من الكرامة التي كان يؤمن بها العاهل المغربي منذ توليه عرش أسلافه المنعمين.

حيث تم إطلاق ورش الإنصاف و المصالحة، و سياسة القرب و المفهوم الجديد للسلطة و تقرير الخمسينية و اطلاق ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
كل تلكم الأوراش و خلال عشيرينية حكم الملك محمد السادس أدت الى اختراق عميق للمجتمع المغربي و أبانت عن نجاعة فائقة في الوقوف على مكامن القوة و مكامن الضعف و الفرص التي يمكن استثمارها لتقوية البنية المجتمعية للدولة المغربية.

حيث كانت نقطة التلاقي و التقاطع في جميع السياسات العمومية و البرامج التي تم اعتمادها هو العنصر البشري و خصوصا الشباب الذي يشكل حسب آخر الاحصائيات الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط 6 مليون شاب أقل من 24 سنة مما يشكل ثروة بشرية هائلة.

و قد وقف الملك محمد السادس على تلكم التحديات التي تواجه الشباب المغربي في خطب عديدة، لكن التحول المفصلي بين مرحلتين أساسيتين في العهد الجديد و الانتقال من مفهوم التنمية الى تثمين الرأسمال البشري الذي كان خطاب ثورة الملك و الشعب و عيد الشباب لسنة 2018 محطة اطلاق المفهوم الجديد لتثمين الرأسمال البشري و الدعوة لبلورة النموذج التنموي الجديد و الذي تطرق إليه العاهل المغربي في خطب عديدة؛ ثم اطلاق المرحلة الثالثة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية و التي عمادها نفس المعنى و المبنى.

و شخص ذكر جلالة الملك محمد السادس نصره  الله في المقتطف الاتي ذكره وضعية الثروة الحقيقة حيث قال “… فلا يمكن أن نطلب من شاب القيام بدوره وبواجبه دون تمكينه من الفرص والمؤهلات اللازمة لذلك. علينا أن نقدم له أشياء ملموسة في التعليم والشغل والصحة وغير ذلك. ولكن قبل كل شيء، يجب أن نفتح أمامه باب الثقة والأمل في المستقبل …“
و انتقل الملك محمد السادس  في نفس الخطاب إلى إعطاء حل عملي و توجيهات مباشرة للحكومة و السلطات العمومية و المنتخبة من خلال وضع التكوين المهني تحت مجهر الإصلاح و إطلاق مرحلة جديدة لتثمين الرأسمال البشري حيث قال جلالته :”ورغم المجهودات المبذولة، والأوراش الاقتصادية، والبرامج الاجتماعية المفتوحة، فإن النتائج المحققة، تبقى دون طموحنا في هذا المجال. وهو ما يدفعنا، في سياق نفس الروح والتوجه، الذي حددناه في خطاب العرش، إلى إثارة الانتباه مجددا، وبكل استعجال، إلى إشكالية تشغيل الشباب، لاسيما في علاقتها بمنظومة التربية والتكوين.“

و بهذا تم فتح ورش مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل من خلال تعيين إدارة جديدة تروم الوقوف على الإصلاحات الكبرى كورش استراتيجي، و ترأس الملك محمد السادس، يوم فاتح  اكتوبر 2018 جلسة عمل خصصت لتأهيل عرض التكوين المهني وتنويع وتثمين المهن وتحديث المناهج البيداغوجية.
ويندرج هذا الاجتماع في سياق تنفيذ الأولويات والتدابير المحددة من طرف جلالة الملك، لاسيما في خطابي العرش وذكرى 20 غشت .

وتعكس العناية الملكية السامية الثابتة بقطاع التكوين المهني باعتباره رافعة استراتيجية، ومسارا واعدا لتهيئ الشباب لولوج الشغل والاندماج المهني.

وبالفعل، فقد كان جلالة الملك قد أثار الانتباه مجددا، في خطابه السامي لـ20 غشت الماضي، حول قضية تشغيل الشباب، لاسيما في علاقة مع إشكالية الملاءمة بين التكوين والشغل.
وخلال هذا الاجتماع، أخذ جلالة الملك، حفظه الله، علما بأولى المقترحات والتدابير التي يتعين اتخاذها من طرف القطاعات المعنية، المتعلقة بتنفيذ التوجيهات الملكية السامية.

ويتعلق الأمر، على الخصوص، بإعادة هيكلة شعب التكوين المهني، وإحداث جيل جديد من مراكز تكوين وتأهيل الشباب، وإقرار مجلس التوجيه المبكر نحو الشُّعب المهنية، وتطوير التكوين بالتناوب، وتعلم اللغات وكذا النهوض بدعم إحداث المقاولات من طرف الشباب في مجالات تخصصاتهم.
و منذ ذلك اليوم فتح مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل ورشا شاملا تمخض عنه اطلاق جيل جديد من مؤسسات التكوين المهني اطلق عليها ” مدن المهن و الكفاءات” حيث تم اطلاق ورش بكل جهة من جهات المملكة و بلغت نسبة الاشغال في عدد منها 100٪ ( العيون، الناظور، اكادير) و مابين 70٪ و 90 ٪ في باقي الجهات.

و ستعتمد على آلية تشاركية في التدبير من خلال الشراكة بين المكتب و مجالس الجهات و القطاع الخاص يروم  صياغة احتياجات السوق من كفاءات و تتبعها و توفير الامكانيات البشرية و اللوجيستيكية اللازمة لمواكبة سوق الشغل حسب خريطة جهوية مندمجة. و من بين ثمار هاته الرؤية الملكية السامية التي أكدت بالملموس النظرة الثاقبة للعاهل المغربي في استشراف آليات ادماج أفضل للشباب المغربي و تثمين الرأسمال البشري هو التحول الجذري الذي عرفته منظومة التكوين المهني من خلال جاذبية الاستقطاب و جعل التكوين المهني محرك أساس لدورة التشغيل و مساهم في التنمية الاجتماعية و الاقتصادية.

فالهندسة الجديدة التي اعتمدها التكوين المهني و التي أبانت عن علو كعب الادارة العامة و الأطر التابعة لها و انكباب الأطر الادارية و التكوينية جهويا على التنزيل الأمثل كان لها بالغ الأثر حيث استطاع مكتب التكوين المهني أن يكون حاضرا و بقوة خلال الجائحة من خلال استمرارية التكوين عن بعد و تطوير منصات و موارد رقمية دائمة للمتدربين و ازدياد الطلب على الخريجين من أجل الادماج سواء من القطاع العام أو الخاص.

ثم أخيرا و ليس آخرا الاقبال الشديد هاته السنة على التسجيل في شعب التكوين المهني و الذي قبل عشر سنوات كان في المنظور الشبابي الشعبي أنه اختيار للفاشلين دراسيا و المنقطعين و المطرودين، إلا أن مع الاصلاحات المتتالية و هاته السنة خصوصا عرف “هجرة” غير مسبوقة للمتفوقين و أصحاب المعدلات العليا حيث في بعض اللوائح تجد معدلات الباكلوريا  16 و أكثر من مختلف مسالك التعليم، مما رفع من عتبة الانتقاء و جعل التنافس على أشده في بعض الشُّعب، مع استمرار استقبال الشباب القادمين من مستويات أقل نتيجة الهدر المدرسي  مساهمة من القطاع في احتضان هؤلاء الطاقات و توجيههم نحو مهن تضمن لهم الكرامة و اندماج افضل في المجتمع.

و بذلك يكون مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل قد حقق أولى ثمار السياسة الملكية المتبصرة في تثمين الرأسمال البشري من خلال نجاح تلكم الاستراتيجية و الاستجابة لمتطلبات السوق الاقتصادية من خلال استقطاب الشباب و المساهمة في إدماجهم عبر تكوينات تلائم سوق الشغل و اعتماد آلية جديدة تعتمد على المصاحبة و المواكبة بعد التكوين في مجال المهارات الغير تقنية مثل إعداد السيرة الذاتية و التحضير لاجتياز المباريات و ورشات تفاعلية حول تدبير الوقت و تدبير فضاء العمل و غيرها من المهارات الحياتية المؤهلة لسوق الشغل ، كما أن الخريجين الذين يرغبون في التوجه للتشغيل الذاتي و لديهم حس مقاولاتي يواكبهم مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل من حاضنات الأعمال و المواكبة و المصاحبة مع مختلف الفاعلين في المجال المقاولاتي لانجاح اندماج أفضل داخل المنظومة الاجتماعية و الاقتصادية للمغرب الحديث مغرب التحديات لبلورة النموذج التنموي الجديد و استشراف أفضل للأجيال الصاعدة.