بين بالأمس و اليوم ..عندما اجتاح “الموت الأسود” الصين والعالم

ترجمة: عبد الحكيم الفرقان

يرصد المقال التالي الذي نشر سنة 1894 في مجلة علمية أمريكية مشهورة أوضاع تفشي وباء الطاعون عبر العالم. ومن صدف التاريخ أن الطاعون المعروف بـ”الوباء الثالث” انتشر في الصين نهاية القرن التاسع عشر، ومنها أيضا إلى باقي أنحاء العالم؛ وبالتالي فالتاريخ يعيد نفسه من جديد مع الانتشار العالمي لجائحة فيروس كورونا المستجد كوفيد19.

يوم اجتاح الموت الأسود الصين

كانت أعراض المرض تتمثل في حمى شديدة وصداع وتورم في غدد الرقبة والإبط وأعلى الفخذ، وكذا نزيف في الأنف وطفح جلدي؛ وقد أودى بـ80 إلى 90 في المائة من الحالات المصابة، وذلك في مدة لم تتجاوز في الغالب ثمان وأربعين ساعة من حين الإصابة به. هذا هو التصوير الكلاسيكي للطاعون، أو كما هو معروف بالطاعون الأسود أو الطاعون العظيم أو الدبلي؛ وسبق وأشرنا إليه حينما ظهر في تركستان خريف سنة 1892 وقضي جراءه في مدة ستة أيام 1300 شخص في بلدة صغيرة..

ومع أنه اعتبر أكثر الأمراض المعدية ترويعا، إلا أنه ظل مجهولا لحضارتنا الحديثة، فحتى علماء الأوبئة والبكتيريا لم يقوموا بدراسته بما يكفي، والسبب في ذلك كونه من الأوبئة المندثرة، أو على الأقل لم يظهر في منطقة أمكن طلاب العلوم دراسته، وكل هذا جعلنا نجهل كل شيء تقريبا عن أسباب ظهوره أو عن طرق انتشاره.

الأمر الوحيد المعلوم لدينا أن الطاعون تفشى في بلدان أوروبية في فترات وعلى امتداد ألفي سنة تقريبا، وهو الوباء نفسه الذي ظهر إبان فترة حكم الإمبراطور تراجان، كما أنه دمر أوروبا وآسيا بأسرها في القرن الرابع عشر، ومات بسببه 25 مليون شخص تقريبا في أوروبا و36 مليون شخص في آسيا.

وعلى امتداد خمسة أشهر تفشى فيها الوباء في نابولي سنة 1656 توفي 000 300 شخص من جراء الجائحة. وكل من طالع “يوميات الطاعون”، لصاحبها دانيال ديفو Daniel Defoe، سيتذكر فظائع الوباء في لندن سنة 1665 كما صورها بقلمه المبدع.

صحيح أن هناك شكوكا تحوم حول ما إذا وجد المؤلف فعلا في لندن في ذلك الوقت، غير أن وصفه الدقيق للحقائق يؤيد إمكانية ذلك؛ ففي غضون بضعة أشهر على انتشاره في المدينة لقي ستة وتسعون ألف شخص حتفهم. وعند تطرقه لأعراض الطاعون، أكد ديفو أنه “أنهك بعضهم من فوره، مع ما رافقه من حمى شديدة وتقيؤ وآلام في الظهر وصداع حاد إلى درجة دخولهم في نوبات من الهيجان وحتى الهذيان. أما البعض الآخر فتظهر عليه انتفاخات كبيرة في الرقبة والفخذ والإبطين، ما يتسبب في آلام لا يمكن تصورها”.

ظهر الطاعون في مدينة تولون سنة 1721 وقضى على ثلث سكانها، وكان آخر ظهور له في أوروبا في كل من تركيا ودلماسيا خلال الفترة بين سنة 1840 و1841. وتمكن خيرة الأطباء الأوروبيين من معاينة الطاعون في مصر خلال الفترة الممتدة بين سنة 1833 و1845، وكان ذلك بمثابة حلم يتحقق قبل ظهور علم الأوبئة والفيروسات. ومنذ ذلك الحين، انتشرت الجائحة في غرب آسيا على ضاف نهر الفرات ما بين 1867 و1873، وفي بغداد سنة 1876، وعلى ضفاف نهر دجلة سنة 1877، وفي بعض أجزاء من بلاد الرافدين سنة 1884.

واصلت العدوى انتشارها ولو بشكل طفيف إلى ضفاف نهر الفولغا سنة 1878، وأرسلت عدة حكومات أوروبية لجانا طبية من أجل إجراء بحث ميداني، لكنها اختفت قبل وصولها.. ولقد سبق أن أشرنا إلى انتشاره في قرية واحدة أو قريتين في تركستان سنة 1892.

يعتبر الطاعون من أكثر الأمراض المعدية القاتلة التي لم يسلم منها لا البشر ولا الحيوان. يستمر الوباء في الانتشار في بقاع غرب آسيا. قد يبدو الأمر مطمئنا لأنه لا تربطنا بهذه البلدان علاقات تجارية ولا أسفار متبادلة، لكننا نعتقد أن هناك ضرورة ملحة للنظر في انتشار الجائحة في الموانئ الآسيوية التي نرتبط بها باستمرار.

هذا الوباء مرعب للغاية في طبيعته ومظهره، فظيع جدا في تطوره؛ ونحن لسنا على أتم الاستعداد لمجابهة مثل هذا الوباء، علما أننا لا ندري أسبابه أو طرق انتقال العدوى أو وسائل اعتراضه.. إنه بالتأكيد يستحق اهتماما جادا من حكومتنا ومن مسؤولي الرعاية الصحية، وخاصة أولئك المتمركزون على متن السفن المتجهة إلى الموانئ الآسيوية.