
مراسلون 24 – متابعة
وقد شكل قول هابرماس الذي استهل به مؤلفه * الخطاب الفلسفي للحداثة “الحداثة مشروع لم يكتمل بعد” *
(la modernité est un projet inachevé )
الأرضية التي انطلقت منها أشغال هذه الندوة والتي عُبّر عنها بالسؤال التالي: هل المغرب بلد حداثي أم أن حداثته لم تبدأ بعد؟.
الأستاذ لمريني خريج جامعة السربون أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، لذلك لا نستغرب أن تنصب جل اهتماماته وانشغالاته الفكرية والفلسفية في موضوع الحداثة والتحديث؛ وقد حاول بعد أن قرأ الفكر الحديث وخبر دروب الحداثة، أن يجيب عن السؤال السابق كتابة وتأليفا بالعربية والفرنسية، ليس فقط للتعريف بالحداثة وتشخيص مظاهر التحديث، وإنما أيضا لبيان علاقة المغرب بالحداثة منذ القرن الخامس عشر. وإذا أخذنا هذا التاريخ بعين الاعتبار، فلربما قد يكون المغرب سبّاقا في الاتصال بالحداثة بالمقارنة مع جيرانه في شمال إفريقيا وربما بلدان الشرق الأوسط أيضا.
إن الميزة الجوهرية التي طبعت المشروع الفكري للمريني تتجلى في جعله المغرب موضوعا للنقاش الفلسفي، والنظر في معضلاته الاجتماعية، والتي مردها بالأساس إلى تردد المغرب في التحديث الكلي لجميع مؤسساته. وبذلك يكون الرجل مثقفا عضويا بمعنى غرامشي، يجمع التفكير النظري والفلسفي مع الممارسة السوسيولوجية والأنتروبولوجية، بالإضافة إلى علوم السياسة والتاريخ. هذا الغنى في المرجعيات جعل من اعماله ومؤلفاته بمثابة المفتاح لفهم معيقات الليبرالية والتحديث في المغرب، وهي المعيقات التي حالت دون أن ينخرط البلد في الازدهار الحضاري، والانخراط بالخصوص في التطور الاقتصادي الذي عرفته المجتمعات الغربية.
كان للمغرب فرص كثيرة للحداثة والتحديث، لكنه لم يستثمرها لصالحه، وهو ما نلحظه في ما دوّنه المؤرخون والكتابة السفرية والبعثات الدبلوماسية عن المغرب، حين اكتفوا بوصف الشق المرتبط بتطور الجيش والاقتصاد والعمران، دون الوقوف عند الأسباب الحقيقية للتطور والازدهار، ألا وهي الاهتمام بعلماء الطبيعة والفلاسفة والادب ورجال الاقتصاد والسياسة.
والبحث في دلالات الحداثة ومعيقات التحديث في المغرب هو الذي حكم أشغال الجلسات العلمية المتنوعة، والتي امتدت على يومين (12 و13 نونبر)، شارك فيها أساتذة وأكاديميون قدموا إلى الكلية من مختلف المدن والجامعات المغربية: مروان لحميداني عن جامعة مولاي إسماعيل مكناس (موضوع المداخلة: الفلسفة والحداثة: منافحة ، تحليلا ونقدا)؛ محمد حجاوي عن الكلية متعددة التخصصات بالراشيدية (موضوع المداخلة: بين المراصد الابستيمولوجية وقلق الحداثة: قراءة في فكر فريد لمريني وسيرته)؛ عبد النبي الحري عن جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء (موضوع المداخلة: مركزية الديموقراطية الليبرالية في نقاشات الفلسفة المعاصرة)؛ عبد الواحد أيت الزين عن جامعة محمد الخامس الرباط (موضوع المداخلة: الحداثة المشهورة والحداثة المهجورة)؛ يوسف أشلحي عن الكلية متعددة التخصصات الناظور (موضوع المداخلة: النقد والتحرر: أو في نقد بنى الحداثة المتأخرة)؛ يوسف مريمي عن جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء (موضوع المداخلة: العقل الساخر: نحو تنوير جذري)؛ عبد الفتاح كموني عن الكلية متعددة التخصصات الراشيدية (موضوع المداخلة: أسس النقد الفلسفي في مشروع فريد لمريني: كتاب الفلسفة والنقد مراصد ابيستسمولوجية نموذجا)؛ محمد إشو عن الكلية متعددة التخصصات الناظور (موضوع المداخلة: عوائق التحديث بالمغرب: قراءة في كتاب صراع الحداثة والتقليد للأستاذ فريد لمريني)؛ عبد الرحيم برواكي عن جامعة مولاي إسماعيل مكناس (موضوع المداخلة: من مبدأ الإنصاف إلى أفق الغيرية: قراءة في محاضرة الأستاذ فريد حول تقاسم الخيرات)؛ الحسن أسويق عن الكلية متعددة التخصصات الناظور (موضوع المداخلة: التقنية والحداثة عند خوسي أورتيغا إي غاسيت José Ortega y Gasset) ؛ محمد الشقيف عن الكلية متعددة التخصصات الناظور (موضوع المداخلة: الدرس المنطقي كدرس في النقد)؛ عز الدين العمراوي عن الكلية متعددة التخصصات الناظور (موضوع المداخلة: بأي معنى يكون المرء حداثيا ؟ أضواء على مشروع المفكر فريد لمريني)؛ يوسف أقرقاش عن الكلية متعددة التخصصات الناظور (موضوع المداخلة: الليبرالية والحقوق السياسية)؛ ياسين البجدايني عن الأكاديمية الجهوية للشرق (موضوع المداخلة: الفلسفة، الحداثة، والتحديث السياسي للمجتمع المغربي: قراءة سوسيولوجية في أعمال الأستاذ لمريني)؛ إدريس بوحوت عن الأكاديمية الجهوية للشرق (موضوع المداخلة: جهود جورج لوكاتش وارنست بلوخ في نقد قيم الحداثة الغربية: من خلال كتاب النقد الاشتراكي للحداثة للدكتور فريد لمريني)؛ محمد الناصري عن الأكاديمية الجهوية للشرق (موضوع المداخلة: نحو رؤية فلسفية في زمن الاستلاب واليوتوبيا قراءة في كتاب النقد الاشتراكي للحداثة للأستاذ فريد لمريني)؛ أمحمد أمحور عن الأكاديمية الجهوية للشرق (موضوع المداخلة: قراءة في كتاب أسئلة الثقافة والمثقفين في المغرب للدكتور فريد لمريني (الأكاديمية الجهوية للشرق).
ومن الخلاصات الأساسية التي انتهت إليها الندوة كون الحداثة لا تعني بالضرورة محو كل ما يرتبط بالتقليد، بل هناك قيم إنسانية عظمى في التقليد مثل التضامن والتعايش والتطوع والاحترام (للأشخاص والمؤسسات) والجد والإخلاص… وغيرها كثير. كما أن هناك قواعد والتزامات اجتماعية تساهم في تماسك المجتمع وتحول دون تفشي الجرم والفوضى.
كما لا تعني الحداثة، ومعها الليبرالية، الدفاع عن بعض الأمور التي لا تمت بصلة بطبيعة وإنسانية الإنسان كالدمار والحروب والاستغلال وباقي المظاهر الشاذة واللاإنسانية.
الدفاع عن الحداثة دفاع عن القيم الإنسانية التي لا تنقص من التقليد أو تعارضه، مثل المواطنة والعقلانية والعدالة والمساواة والحرية… فهي قيم تمنح الإنسان دائرة أوسع للاختيار والتعبير والعمل.
لذلك يمكن اعتبار كتب المفكر لمريني من النماذج القليلة التي تجمع بين مرجعيتين كبيرتين؛ مرجعية مغربية أصيلة تفتخر بتاريخها ومؤسساتها، ومرجعية حداثية تعيد مساءلة المغرب في علاقته بالعالم الغربي؛ لان الحداثة سيل جارف غير قابل للمحاصرة، بل يحاصرنا أكثر مما نحاصره، وسيجرفنا كغثاء إذا لم نستعد له ونسعد به. ولهذه الأسباب كلها انصبت جل مداخلات المشاركين في هذه الندوة على تفصيل القول في هكذا معضلات، لتختتم أشغالها بكلمة ألقاها الأستاذ فريد لمريني يعرض فيها سيرته ومشواره الأكاديمي والبيداغوجي.