عصام الحكماوي.
صدر مؤخرًا للباحث المغربي في الفلسفة والفكر السياسي المعاصر الدكتور «الصديق الدهبي» كتابًا جديدًا، عن دار «أفريقيا الشرق»، بعنوان «الحداثة المنقوصة: تشارلز تايلور ومساءلة المنجز الغربي»، مدفوعًا برغبة إعادة النظر في تقابلات الحداثة وأسئلتها ومقولاتها المؤسسة، وبهاجس إعادة قراءة أبرز ردود الأفعال والمواقف والأضواء التي سُلِّطت صوبها خلال العقود الأخيرة، من باب إعادة ترتيب القول بشأنها، ودفعها إلى طرق أبواب القراءة الهادئة التي تقف على مسافة من مُنجز الحداثة.
تنطلق هذه القراءة التي يقول عنها صاحبها الدكتور «الصديق الدهبي»، بأنها تتوخى الهدوء والمرونة وعدم التعجل في إصدار الأحكام الجاهزة، ولا التسرع في محاكمة أو تمجيد الحداثة ومُنجزها، من مفارقة تَتَعَجَّب من كيف أن للحداثة مؤيدين ومعارضين، وتلم المتفائلين والمتشائمين في الآن ذاته، متسائلا عما معنى أن يكون الاتفاق والاستقرار حول القراءة الواضحة بشأنها أمراً معدوماً ومحالاً، رغم أن الأسُس والمظاهر والآفاق والممكنات هي في البداية والنهاية عائدة إلى المصدر نفسه؟ معتبرًا أن الجزء الأساسي من المجهود ينبغي أن يُوجه نحو تشخيصها واستشراف عمقها، بعيدًا عن لوثة التقييم ورهان المحاسبة، باعتباره مسارًا يزيد حدة الفرقة والتباعد، ويُقلل من إمكانات التوصل إلى فهم أعماقها الإشكالية.
يقود هذا الخيار صاحب الكتاب إلى وضع تصور بشأن هذه القراءة الجديدة، التي تسلم بأهمية تجاوز الأحكام الجاهزة والمسبقة تجاه الحداثة وما أكثرها سواء بالقبول والتهليل والإعجاب أو بالرفض والاتهام والتشكيك، واستبدال هذا الخيار بآخر، يتوجه صوب محاولة الإنصات الجيد لمفعولات الحداثة وأساساتها وأصولها وأسئلتها ومفارقاتها، وهو مسار قاده إلى الانطلاق من ملامح مشروع الفيلسوف الكندي «تشارلز تايلور»، منظورًا إليه كما يقول صاحب كتاب «الحداثة المنقوصة» في سياق نقدي، يسمح بتقويل الحداثة من أفقين ومنظورين نقديين مختلفين، لكنّهما موصولين، يقول الأول: بواقعية البؤس ويدعو الثاني إلى استحضار آفاق العظمة للنظر إليها من زاوية كونها مشروعاً يربط العلل بالعلاجات ويلاقي الإدانة بالتمجيد والحداثة مع القدامة.
وفقًا لهذا الاعتبار يكشف الكتاب عن زاوية تركيزه، محددة في أعمال «القرن التاسع عشر»، التي يعتبرها مفصلية في فهم كل ما قيل في الحداثة وحولها، ويعتبر أننا نحن معشر العرب تحديدًا ملزمون بالنظر عميقًا والحفر بجدية ضمن هذا السياق التاريخي والفكري، من حيث كونه التعبير الأمثل عن فكرة الحداثة المنقوصة، من منطلق كون هذه الفترة هي همزة الوصل بين حلم الأنوار بنبرته التفاؤلية نحو التقدّم ومشروع السلام الدائم والتسامح وتعميم الخبر السعيد، وبين القرن العشرين موصوفاً بكونه قرن الأزمات والحروب والفواجع، فصارت نصوصه الأقدر على إدراك هذا التململ، خاصة لما استشعر رموزه وهم أحفاد تجربة التفاؤل والأنوار وحراس عقيدة التقدّم، أن هناك مياه تجري تحت القناطر وأن شيئاً ما رهيب هو على وشك أن يحدث.
كما يفترض الكتاب مسارًا نقديًا جديدًا بشأن الحداثة، يفترض بأن أي قراءة نقدية صوب الحداثة ينبغي أن تستحضر حقيقة التعامل معها باعتبارها أيضًا «حداثة نقد»، ولأنها كذلك فإنها أنجبت أمراضها وعلاجاتها من الرحم نفسه، وفي الآن ذاته، وأن الأمر لا يتعلّق بانزلاق من حدوس أخلاقية حميدة إلى مثالب مرذولة كما في أحاديث انزلاق العقل نحو الأداتية، أو الفردانية نحو النرجسية والعزلة، بقدر كونها ولادة مزدوجة لا أسبقية فيها لفكرة على أخرى، والمقصد أن روح هذه الاستعادة الواصلة بخصوص هذا المُنجز، تسمح باستضافة رؤية مغايرة لكيفية التعاطي مع سؤال الحداثة، يقول بأن فهمها والتمكن من مفاتيحها يشترط أن تعرّف بمفارقاتها ومبادئها معا.
يعني هذا فيما يعنيه، أن التركيز على الطابع المفاهيمي، من خلال توجيه التركيز صوب «تعريف الحداثة عربيًا»، ينبغي أن يتجاوز بعض حدوده التقليدية، التي تُفضل الإقامة في القرن السادس والسابع والثامن عشر، رغم أهميتها، والنظر إلى الحداثة لا كمجموعة مبادئ واضحة، بل باعتبارها حابلة بالمفارقات والأسئلة والتناقضات التي لا تُعرف إلا بها، باعتباره المسلك الذي سيسمح بفهم أفضل للحداثة، وتجاوز منطق الاصطفافات التقليدية معها كانت أو ضدها، تفاديًا للوقوع في مطب العدمية أو التفكيكية أو ما جرى تداوله من فلسفات الإعدام الأخرى، التي تؤسس لمشهد ما بعد الحداثة، واحترازًا من السقوط في تلك النبرات المنبهرة التي تقدس الحداثة وتدعو إلى عبادة مقولاتها.
وبالمختصر؛ فإن الكتاب يلتمس كما يقول صاحبه الباحث في الفكر السياسي المعاصر «الصديق الدهبي» إدراك مفعولات هذه الرجة التي أحدثتها الحداثة في القرن التاسع عشر تحديدًا، وامتداداتها المتصلة بالآن العربي، وكيف أن مقصده ومراده من هذا العمل، ليس فقط إضافة متون جديدة للمكتبة العربية، تكون حول نقد الغرب للغرب، وما أكثرها رغم أهميتها، وإنما التعاطي مع “الحداثة” باعتبارها لا تعني الغرب وحده، بل تعنينا جميعا في طرح أسئلتنا الجدية أخلاقيًا وسياسيًا ووجوديًا، وأن الانخراط في رؤى نقدية شبيهة، من شأنه أن يكون معينًا على طرح الأسئلة العميقة والجدية المتعلقة بسؤال «الهوية العربية»، في نتوءاتها الراهنة، وبروح هادئة ترفض تكرار لغة المؤامرة والمآسي، أو ما يقابلها من لهجات التفوق والنشوة العربية، لتجاوز أي حالة من “السادو – مازوخية”.
ما يعني أن كتاب «الحداثة المنقوصة»، هو مدخل لقراءة تشخيصية، تريد أن تسلك دروبًا مغايرة بشأن هذا المُنجز الغربي، وأن تساهم في إعادة ترتيب هذه الرؤى النقدية في الساحة العربية، من باب كونها تفتقد إلى شرط الهدوء وقابلية الإنصات الجيد لكل ما بدر عن الحداثة أو قيل عنها أو باسمها، وأن تكون محاكمتها للحداثة مبنية أولًا على قراءة واضحة لها، ولا تبتغي الوصول إلى تبجيلها أو تبخيسها، وأن تعيد النظر في قطائعها لإدراك الأصول اللا حداثية للحداثة، بما يتطلبه الأمر من جلوس مطول مع كل نصوصها وإنصات جيد لكل مقولاتها ورهاناتها ومبادئها، لتحقيق شرط أن تكون هذه القراءة التي يقترحها مؤلف الكتاب، بالفعل متوجهة صوب «المُنجز الغربي»، هكذا بالتعريف والتعميم.