مراسلون 24 – الرباط
في كتابه “أصل الأنواع” (L origine des espèces)، تعرض عالم الطبيعة البريطاني تشارلز داروين ل “نظرية التطور” (Théorie de l évolution) التي لَقِيَتْ ترحيبا كبيرا في الأوساط العلمية آنذاك، عكس نظريته “الإنتقاء الطبيعي” (la sélection naturelle) التي لم يتم إعتمادها علميا إلا عند حدود سنة 1930 أي زهاء نصف قرن بعد وفاته. وهما نظريتين مرتبطتين، بإعتبار أن التطور، حسب داروين، يمر عبر طريق الإنتقاء الطبيعي. و بذلك يمكن للكائن التكيف مع بيئة بشكل يضمن له البقاء في الظروف المحيطة به، ليصير “البقاء للأصلح” (Survival of the fittest) كما وصف ذلك الفيلسوف البريطاني Herbert Spencer.
و إستحضاراً لصيرورة تطور الكائنات عبر التاريخ، فالعديد يرى في هذا الطرح ما يبرره: فهناك كائنات قاومت و ضمنت البقاء، في حين إنقرضت أخرى أو تحولت أو تغيرت بفعل هذا التطور، دائما حسب نظرية داروين.
وإذا تَمَكَّنَ الإنسان من الإستمرار في العيش منذ 300.000 عام حسب تقديرات الدراسات الأحفورية ( Etudes Paléontologiques) فهذا ليس وليد الصدفة، و إنما لكون جسم الإنسان ظل يقاوم عبر الزمان و المكان، قاوم الطبيعة و تقلباتها، والطقس و نزواته، والوباء و تسلطه.
فالله وهب البشر جسما صُمِمَ للمقاومة, كونه مجهز بمعدات مناعية مدمرة بقيادة جحافل الخلايا التائية القاتلة (cellulesT) و هي الخلايا التي تقاوم الباكتيريا و الفيروسات. و هذا الجهاز المناعي هو سلاح الإنسان الذي مكنه من الصمود ضد كل الأمراض و العداوى عبر التاريخ.
و الى حدود كتابة هاته الأسطر، و رغم الفَزَعُ الذي تسبب فيه covid 19 في العالم, فمن اصل 747,922 شخص مصاب، توفيت 52,950 حالة بمعدل %19، و تم تعافي 212,015 حالة اَي بنسبة %80,02. وهي مؤشرات تؤكد تفوق مناعة الإنسان في معاركها ضد الفيروسات في حرب من أجل الحياة. و طبعا المناعة هي الأصل، لكن المصاحبة الطبية تبقى عنصرا فارقا في صراع البقاء.
فالبقاء لا يمكن أن يُخْتَزَلُ فقط في الجهاز المناعي، و إنما هو شرط صحي ووقائي و إستباقي يسائلنا اليوم، و أكثر من اَي وقت مضى، حول إعادة النظر في ترتيب أولوياتنا. والصحة، لا يختلف إثنان، متربعة على رأس هذه الأولويات. فرغم المجهودات المبذولة حيث إنتقل معدل الإستثمار في الصحة ببلدنا من%4 سنة 2012, إلى %7,7 ضمن ميزانية 2020، في إطار مواصلة تفعيل مخطط الصحة 2025, تبقى كل المؤشرات دون المستوى المطلوب، فنحن تقريبا بنسبة %50 دون المعدل التي أوصت به منظمة الصحة العالمية فيما يخص عدد الأطباء و الممرضين والأَسِرَةُ الطبية، و ميزانية الإستثمار في الصحة، و رغم توصيات المنظمة العالمية للصحة في حصرها في نسبة %9 على أقل تقدير، لا زال معدلنا بنسبة اقل من معدلات 194 دولة عضوة في المنظمة العالمية للصحة. و هذا ما نجد تفسيرا له في الرتبة التي تحتلها الخدمات الصحية بعد التعليم، و الدفاع، و المالية و الداخلية.
فاجأني كثيرا تصريح للوزير الفرنسي السابق Jean-Luc Mélenchon، المزداد بطنجة، و هو يتنبأ في 2 من أبريل2017 بما اسماه “le krach sanitaire” (الانهيار الصحي) قائلا: “نحن مهددون بإنهيار صحي حقيقي، و الإنهيار هو سقوط مدوي” مضيفا “منظورنا للصحة يجعلنا غير قادرين على رفع التحديات التي تواجهنا اليوم، ولعل أولها ظهور أوبئة جديدة”. و هي دعوة صريحة إلى ضرورة تبني رؤية جديدة وفق مخطط صحي تعبوي يستخلص العِبَرُ من المحن و الأزمات. و لعل الحظر الصحي الذي طال العالم اليوم لخير إمتحان لإعادة ترتيب الأوراق.
و هو ما يحتم ضرورة و إستعجالية إقرار نظام مرجعي عالمي للصحة، لأنه تبين و بشكل فاضح جدوى و أثر الصحة على الإقتصاد. الفلاحة توفر العيش، و الصناعة تلبي الحاجيات، و التعليم يصنع العقول، و الصحة تبني الأوطان.
و كما قال Ali Ezzat Begovic، الرئيس الأسبق لجمهورية البوسنة و الهرسك:” عندما تكون في السجن تكون لك أمنية واحدة هي الحرية. و عندما تمرض في السجن لا تفكر في الحرية و إنما بالصحة”.
وهذا ما يفسر صراعنا من أجل البقاء.