بقلم : محمد فؤاد قنديل
فن”المزوكي” لن تحدثك عنه اليوم الا الجدات السلاويات وبعض المهتمين، فهو من النفائس اللوامع التي أجتهد في تجميع دررها المنفلتة من عقد مشتت، أضحى من اللازم لملمته وصيانته وإشاعته، لأنه على مشارف الضياع، لقد اختنزنته الذاكرة الشعبية ضمن ما اختزنته من المرويات والمحكيات والألغاز والأمثال حيث شكلت متنا مضيئة، نقلت إلينا بطرق متنوعة أسلوب ونمط عيش السلاويين، وأعطت صورا دقيقة عن ما ميز علاقاتهم الأسرية والاجتماعية. لقد أضحى صونه لزاما على المتدخلين في هذا الشأن، حفظا للجذور و وتشبتا بالهوية، بينما الاكتفاء بالتفرج يعني انتظار نعي وشيك له نحن على مشارفه، في القادم من الأيام.
المزوكي فن “بلدي” يمزج الكلمة الموزونة الملحنة المنطوقة، التي تعكس مزاج المتغني وما يخالجه من فرح أو حزن. فهو تغني واحتفال وفرحة بحدث سعيد، أو نواح ومناجاة و”تعداد” لقرح، أو تعبير عن شعور داخلي.
لم يكن لتمر مناسبة في محيط عائلتنا، دون أن نسافر في هذا الموروث الشعبي، بما تختزنه ذاكرة إحدى الخالات المشمولة برحمة الله، وهي تعدد بصوتها الرخيم الذي لا يزال يصدح رنينه في أذني، بتلك الدرر اللوامع التي تحملنا إلى عوالم عجائبية في أجواء مستلطفة . كنا نفخر ونعتز ونحن ننتشي ونطرب بذلك، ونعتبره فسحة بعبق الأصالة، ومنتوج فرجوي تسوقت منه قريبتنا، وتقاسمت نسائمه بكرم مع الأهل والأحباب.
لا شك أن هذا الفن في الأصل وليد ومنتوج البيئة الثقافية لجهة درعة تافيلالت، فهو عريق عراقة تلك المنطقة، ولا شك أنه انتقل إلى سلا من الجنوب الشرقي للمغرب، حيث كانت تلك المناطق منارة للأدب والفنون، ووصلنا منها فن الملحون كذلك.
لم استطع لملمة إلا النزر القليل من “المزوكي” المتوفر لدى بنات قريبتي رحمها الله، والمتوفر عندي في بعض التسجيلات، وارتأيت أن أسلط عليه الضوء وأتقاسمه، وأنشد من بسطه تجميع مزيد من المعلومات و المعطيات من قصائد وغيرها ، والتي قد يكون محتفظا بها في ذاكرة بعض الأجداد والجدات، وبالتالي فطرح هذا الموضوع، يبقى من باب فتح كل النوافذ الكفيلة بجمع وتوثيق “المزوكي”
فهذه القصيدة مثلا تقول كلماتها:
أنا أنا عيروني يا لالة بالرقة، يييي؛
والرقة يا لالة مانيش رقيقة، يييي ؛
ما رقيقة غير حبة الجوهر، ييي؛
والجوهر كيتباع بالسوم الغالي، إييي.
وانا يا لالة زغرتو زغرتو…يويويو…صلاة والسلام…
يعكس النص ما قيل قديما أن ” السلاوي جوابو على فمو…”. فهذه “الصفيفرة كي خريقمة وما عندها خرقة” التي سخروا من جسدها الضعيف، لم يزدها الموقف الا ثقة في النفس، ولم ينقص قط من معنوياتها، أو يدفعها مهرولة تستنجد باكية بأمها، إنما دافعت عن نفسها بذكاء، وأجابت المستهزئين: “ما رقيقة غير حبة الجوهر، والجوهر كيتباع بالسوم الغالي”. وبذلك أغلقت أفواه الساخرين.
وللتوضيح كانت روح الدعابة والبسط، تتصيد الفرص عند البعض، وتتقفى كل أثر سلبي في المجتمع بغاية بلورته في قالب يتوخى خلق النكتة والفرجة “البق ما يزهق”. فيكفي أن يكون الشخص “أصلع ” أو” خواف” أو”مفيتر” أو “خضيضر” لينال ما يناسبه من النعوت من قلة ذات التخصص. وتحتفظ الذاكرة الشعبية بما تيسر من الأوصاف في هذا الباب.
أما إن كانت البنت سمينة أو نحيفة، فتغدق بما يليق بحالها ك”وجه الخبزة، المطقسة، وبوخنافر و وجه بغرير”.
وعلى عكس ذلك، فهذه إحدى المحظوظات بجمالها وملاحتها، تنعت بمحاسنها عكس سابقتها، حيث تقول كلمات “المزوكي”:
أنا أنا لالة عيشة عيشة، يييي؛
لابسة يزار أبيض وإيزار حريشة، يييي؛
حيداتو يا لالة ودلات تعوم، إييي؛
القياس فالحزام والصدر موشوم، يييي؛
وهاديك هاديك (تذكر بالإسم) وحياتها كاع نجوم، إيييه؛
وأنااا وأناااا يا لالة، وزغرتو زغرتو يو يو يو يو…الصلاة والسلام على رسول الله…
فعلا” كلها وزهرو حتى فقبرو” فرشيقة القد والقوام” عيشة تحقق الإجماع حول جمالها. والأمر لا يتناطح فيه عنزان. وقد تجر صراحة الرجل وتحمسه في مدح صاحبة الصدر الموشوم حد الغزل، إلى مشاكل مع زوجته التي ستمطره بوابل من الاتهامات لتدخله في “شبقات” النساء.
واللوحة التراثية الآتية من”المزوكي”تتطرق لموضوع ابن العم الذي قدم لخطبة معشوقته، ولما خيروها في مفاضلة بين أبويها وأخيها من جهة أو عريسها من جهة أخرى، فجوابها “شرح ملح” كما ورد على لسان الأم:
أنا أنا يالالة بنتي بنت بوها، يييي؛
جاو الخطاب يخطبوها، يييي؛
قالهوم سولوها سولوها، يييي؛
أنا أحسن ولا بوها، يييي؛
قالت لهم بويا شيباني، يييي؛
ولبسني ثوب لحرير والملف من الفلس الغالي، إيييي؛
ميمتي سبنية فوق راسي، وخيي طية من طية حزامي، إيييه؛
وولد عمي ما أحسن منو غير ربي العالي،
وأنا يا لالة يا لالة و زغرتو زغرتو يويويويو…الصلاة والسلام…..
لقد فضلت خطيبها في الأخير، فهو “زمانها”. لقد كانت بعض البنات تعتبرن الزواج بمثابة انعتاق من سلطة الوالدين، وكن يتزوجن بعد البلوغ بسنوات قليلة. ويشاع أن المرأة بعد الزواج لا تخرج إلا لزيارة والديها وللحمام، ثم للمقبرة عند موتها. ولا أظن ذلك صحيح، فالنساء كن يحضرن الأفراح والأقراح، ويخرجن للتسوق، وللتحصيل والتعليم عند “الفقيرات”، إلى غير ذلك. كما أن رقابة الأبوين ظلت قائمة حتى بعد تزوج البنت، في عديد من الأسر، حيث كان الزوج يقدر قيمة الوالدين.
يغنى المزوكي بلحن جميل، ويبدو كأن المغني يتجاوب مع المستمعين، حيث يكرر سرد “يييي” والتي قد تكون معناها “إيه أي نعم”. فهي من جهة تتمة للقالب اللحني، وطريقة فنية يجدب بها المتغني المستمعين الذين يرددونها معه ككورال منسجم، حيث تختتم القصيدة بالصلاة والسلام على رسول الله.
هذا ما عشناه بسلا في أجواء أسرية عندما كانت خالتي رحمها الله تردد تلك الدرر اللوامع من فن “المزوكي”. وقد يجد قارئ هذه السطور تسجيلات مرئية ومسموعة للمزوكي على اليويتوب، على الأقل كما يغنيها فنانون من الجنوب الشرقي للمغرب.
إن هذا الموضوع الخصب يستوجب تعميق الدراسة والبحث العلمي لتحديد أصول هذا الفن، وكيفية وصوله إلى سلا، والمواضيع التي تطرق إليها بالإضافة إلى شيوخه أو متغنيه سواء بسلا أو بالمناطق التي وصلنا منها أو عبرها. ثم هل حافظ على جدوره أم عرف تغييرات بتغير مناخ نشأته.