تغطية .محمد موسي
إن “سؤال الإنسان” هو سؤال ممتد وعريض يحمل في طياته معنى الإنسان باعتباره المحدد الجوهري لكل معاني الحياة بمختلف أبعادها الطبيعية والوجودية والعلائقية، فما هي المحددات النظرية والوجودية التي يحيل عليها السؤال؟ وكيف نعيد صياغة مفهوم الإنسان ليحقق الحلم في بناء عالم جديد، مؤسس على الخير والمحبة والجمال؟ وكيف يوظف الجائحة ليجدد علاقته بذاته وبالعالم وبالإله؟
رهينا بنزعة التحكم المتأصلة فيه، بنى الإنسان الحديث علاقته بالطبيعة على الانتصار لأنانيته وجشعه فاستنزف مواردها وأفرط في تلويثها، دون أن يتردد في تسخير البيوتيقا للتعديل الجيني للكائن العاقل، سعيا منه “لصناعة إنسان خال من الأمراض”. هذه الازدواجية في السيطرة على كل من الطبيعة والإنسان تبناها نظام نيوليبرالي عولمي ومعولم، سخر العلم والتقنية خدمة لاقتصاد قوامه استنبات كينونة ذات نزوع استهلاكي، همها ضمان أساسيات المعيش اليومي، في مقابل التخلى عن المعاني السامية لوجود إنساني كريم وحر ومطمئن، ليرمى به في غياهب اللامعنى واللاثقة واللاخلاص. فكان من نتائجة ضياع البوصلة وبالتالي استخفاف الإنسان بالموت قتلا أو انتحارا.
هي ذي العولمة الاقتصادية، تحمل في ذاتها جينات الأزمة، التي انفضحت تحت ضربات فيروس كوفيد 19 الفجائية، حيث انهار التضامن الدولي، وانكمشت كل دولة في حدودها الجغرافية، ونشطت قرصنة الأدوية، لتعلن عن تهاوي حقوق الإنسان والمواطنة الكونية المفترى عليهما. وتصبح العولمة محط نقاش حول مدى صلاحيتها لتدبير الأزمات، ما بعد كورونا. وهو ما يهدد بتعرض العالم لهزات قوية، ستعقبها ارتدادات على امتداد الكوكب الأزرق، حالما تنحسر مساحة العدوى.
إن الإنسانية اليوم، توجد عند مفترق الطرق، بين تصحيح المسار، وللفلسفة دور حاسم في الحفاظ على المشترك والدفع به نحو تظافر الجهود لتخطي الأزمة، وبين تأزيم المؤزم بالتمادي في سلخ تكلفة الأزمة من جلد الفقراء والمحتاجين، مما سينذر بتفاقم المشاكل الاجتماعية والسياسية.
لقد كشفت كورونا أن الهشاشة المتأصلة في الإنسان، تجعله في وضعية هروب مستمر من الموت. كما علمتنا أن الزمان هو عبارة عن لحظات منفصلة ومتقطعة، نفصلها بحسب تصريف برنامجنا اليومي خلال 24 ساعة من الحجر، الشيء الذي لم يكن يحس به، إلا من تجرع آلام المرض، أو عانى من لحظات الاحتضار، إذ وحدهما، المريض والمحتضر، من يعلمان معنى الحياة وأهميتها.
إن كورونا، بالنسبة إلينا، نحن –المشاركين في الندوة- تعكس لحظة إفلاس للنظام العالمي وضمنه إفلاس العلم وتراجع جاذبيته وانطفاء سحر العامل الديني. وعليه فالعالم مطالب اليوم، أكثر مما مضى، بوقفة تأمل كشرط من شروط بناء مستقبل بدون أزمات. وبالرغم من ذلك يبقى العلم والمعرفة، هما الحل الأنجع لأزمات ما بعد كورونا، شريطة تحررهما من عبودية العامل الاقتصادي.
إن استشراف المستقبل ينهض على ركام مجموعة من السلوكات الحسية والانفعالية، المغيبة للعقل، ومنها على وجه الخصوص:
التخلص من ثقافة البهرجة والتسطيح وعدم الارتكان إلى الجاهز من الأفكار والنظريات.
إعادة السؤال حول مفهوم الدولة الراعية، وتبني النموذج الذي يهتم بأولوية الإنسان، بدل أولوية الاقتصاد.
ضرورة إعادة النظر في الارتباطات الحميمية، مع مراعاة الاهتمام بالصحة النفسية للأفراد.
الرهان على الإتيقي سبيلا للتأسيس لعيش مشترك يستحضر سؤال “كيف نعيش معا”، بدلا من السؤال الأخلاقي المؤسس على ثنائية الخير والشر.
إن العالم وهو يعيش تحت هول الصدمة ونتائج الجائحة وجهل المصير، ينظر بأمل إنساني لما بعد الجائحة. فهل نحن أبناء وبنات هذا الكوكب الأزرق في مستوى اقتناص اللحظة لنعيد له ازرقاقه وصفاءه ونظامه وإنسانيته، ونجعل من لحظة الجائحة ثورة لشعوب الأرض، من أجل غد يضمن كرامة العيش للأجيال في الحاضر وفي المستقبل؟
إن تحقيق الحلم ممكن، إذا ما أسس الإنسان علاقته بالطبيعة على عقد طبيعي، على غرار العقد الاجتماعي الروسوي (نسبة إلى ج.ج.روسو) يدمج الطبيعية كأولوية في أخلاقياته. وإلا فإن لها من الآليات المتنوعة والمفاجئة، ما يجعلها كفيلة بردع الإنسان والحد من سطوته.