للقاصة : نجاة الجحيلي
ليل مارد يضع المتاريس بيني وبينه ،وكأنه يعلن حربا كونية من أجل انكسار المرايا.لكني لا أريد الحرب ولا أريد الاستسلام.يريدني غارقة في حلكته ،ساجدة في بلاط نزواته.لكني لا أريد الحرب ولا أرغب في الاستسلام .أود فقط الرحيل لعلي أجد عنوانا لذاكرتي ومرفأ لكينونتي.
أريد أن أرحل لعلي أجد صدى ليقظتي ومرآة تعكس وجودي. أرحل إلى صباح يختزل جراحي في نسيم ندي و إلى شعاع يروي سيرة الرحيل؛ فالرحيل إلى الفجر انفلات من دائرة الموت ونجاة من شراك الانهيار.أريد أن أرحل إلى هدوء الحدائق عند المساء وإلى سكون البحر حين يهجره هدير الأمواج لأرقص على إيقاعات نقيق النوارس…
أنا الآن بجانب سرير يحمل شبه جثة لإنسان لا هو من أهل الدنيا ولا هو من أهل الآخرة.وجه تهالكت تضاريسه وانمحت وهيكل عظمي ما زال يتنفس رغم تنبؤات الأطباء بالنهاية منذ خمس سنوات عجاف.طفت به بين مستشفيات المدن ومصحاتها، لتكتمل آخر فصول المعاناة. هذه الفصول التي بدأت منذ بلوغي سن الثالثة عشر عاما،حين اختطفني أبي من المدرسة وقرر تزويجي برجل يتجاوزني باثني وعشرين سنة.اغتصب طفولتي وباع براءتي حين باع جسدي بأرخص الأثمان .
-” كون هاني آنسيبي العزيز غادي نربيها على يدي” عبارة كان يرددها العريس منتشيا وهو يسوقني كما تساق الشاة من السوق إلى مرقدها الجديد. قالها :”يربيبني”لأني مازلت طفلة بريئة تريد أن تلهو مع قريناتها وتأخذ حقها من كراسات العلم.لكن القدر اختار لها أن تكون زوجة مطيعة تكبر أمام أعين زوجها الذي تكلف بتربيتها عوض أبويها .زوجة تقوم مرغمة بكل الواجبات المنزلية لأنها محاصرة بجميع أنواع العنف.
كما كانت مرغمة “ليلة الدخلة ” على فعل أشياء لا تعرفها.لا تعرف من أين تبدأ.أشبعها سبا وشتما وهي تحاول الإفلات منه كما فريسة بين مخالب ضارية.بكت ،توسلت ولا من مغيث.تحول السرير إلى مخفر تمارس فيه جميع أنواع التعذيب ؛محقق يستنطق جسدا لا تعرف عنه صاحبته شيئا.يقلبها ذات اليمين وذات الشمال وهي تستغيث، تتأوه في ليل لا تنتهي فيه رحلة العذاب إلا لتبدأ أخرى.
كان علي أن أستيقظ قبله وأعد له الفطور ثم أوقظه ليشبعني سبا في تلك الصباحات الحزينة.أصبحت كآلة مبرمجة على أعمال روتينية من الصباح حتى عودته في المساء .كانت أمي تعودني لتطمئن على حالي،لكنها تمتلئ حسرة : -“آه يا صغيرتي رماك لعيشة الكلاب؟!”. تقولها وهي توقف دموعها في محجر عينيها لتخفي ألمها وأساها.
رفضت أمي فكرة زواجي وأنا صغيرة،دافعت، بكت ،هجرت البيت غضبا لكي لا يزوجني أبي بتلك الطريقة السريعة وكأنني قطة جرباء يريد التخلص منها.لكن دون جدوى.ماتت المسكينة حسرة قبل أن ترى أحفادها…
تقبلت الوضع رغما عني وتأقلمت مع أوضاع جديدة حيث رزقت بالطفل الأول ،تعلمت كيف أرضعه وأبدل حفاظاته وأشياء أخرى… ثم رزقت بالثاني ؛ سارة ،أنثى أنارت ظلمتي وفتحت باب الأمل أمامي.كبرت بسرعة وسط اللغط وزحمة الحياة. أخذت بيدي حتى أعدت رسم حروف الكتابة والقراءة .أهدتني مفكرة وأقلاما. ثم غادرت البيت والوطن لتؤمن مستقبلها بعد أن علمتني بأن ” الكتابة أفضل وسيلة بوح ..والوثوق بالورق لن يخيب ..”
أغلقت سارة دفتي المفكرة وهي تتأمل العبارة التي ترسخت في ذهن أمها ووثقت بها .احتارت كثيرا .كيف مر الوقت ؟ وكيف لأم حمت أبناءها وكبروا وذهب كل إلى حال سبيله دون أن ينتبه لهذه المعاناة ؟