مراسلون 24
عادت قضية “اختفاء” الشاب التهامي بناني إلى واجهة النقاش الإعلامي، مباشرة بعد انطلاق محاكمة ثلاثة من أصدقائه وزملائه في الدراسة، الذين تابعهم قاضي التحقيق المكلف بالغرفة الخامسة بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء بشبهة التورط في هذه الجريمة التي استغرقت سنوات من البحث والتحقيق.
ولعل ما زاد في تعقيد وتشابك هذه القضية الجنائية، المعقدة أصلا، دخول العديد ممن يوصفون بـ”المؤثرين الافتراضيين” على خط النقاش العمومي، حيث انبرى العديد من هؤلاء النشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي يتحدثون عن مزاعم وفرضيات واستنباطات لا علاقة لها بمحاضر الضابطة القضائية وبأمر الإحالة الصادر عن قاضي التحقيق المكلف بهذا الملف.
إعادة تجميع وتركيب أوصال هذه القضية المتناثرة، التي تتحدث عنها والدة الهالك بحرقة كبيرة. وقد قادنا البحث في هذا الملف المتشابك إلى الاطلاع على محاضر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، التي أحيل بموجبها الأظناء الثلاثة على قاضي التحقيق المكلف بالغرفة الخامسة بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، وعلى جواب مختبر التحليلات الجينية لمصالح الدرك الملكي، فضلا عن تعقيب وجواب متعهدي شبكة المواصلات على انتدابات الشرطة بخصوص بيانات هاتف الضحية.
اعترافات.. واعتقالات
بتاريخ 15 شتنبر 2019، أحالت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية ثلاثة من أصدقاء وزملاء الضحية السابقين في الدراسة، هم أيوب ومحمد يوسف وفؤاد، على قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، بعد الاشتباه بارتباطهم بواقعة اختفاء وموت الشاب التهامي بناني وعدم التبليغ عن مكان جثته.
وقد عاد الأظناء الثلاثة بالمحققين إلى أكثر من 12 سنة، وتحديدا إلى يوم 14 مارس 2007. ففي اعترافات المشتبه بهم أقروا بأنهم خرجوا بتاريخ الحادث على متن سيارة “ألفا روميو” يقودها زميلهم أيوب، وكانوا ساعتها يبحثون عن “اختلاس” فرصة للسمر هربا من تعب الدراسة وزخم الامتحانات.
ورغم أن المشتبه بهم حاولوا إنكار العديد من المعطيات، والقفز على بعض الحقائق، فإن مواجهتهم بنتائج الخبرة التقنية على الهواتف المحمولة، وتقنية التموضع الجغرافي، جعلتهم يتراجعون ويعترفون بأن رحلة البحث عن هذه “التسلية الخطيرة” قادتهم لشراء كمية كبيرة من مخدر “إكستازي” من مدينة الدار البيضاء، قاموا باستهلاكها بشكل مفرط، “مما تسبب لهم في الدخول في حالة غير طبيعية، وظهور أعراض هيستيرية خطيرة على الضحية التهامي بناني”، يؤكد المتهمون الثلاثة في محاضر تصريحاتهم.
ويستطرد المعنيون بالأمر بأنهم رافقوا الهالك في جولة ليلية قادتهم حتى منطقة سيدي رحال، في انتظار استعادة وعيه واستقرار حالته، غير أنه فارق الحياة، مما جعلهم يتخلصون من الجثة بمنطقة رملية محاذية للغابة المطلة على شاطئ واد مرزك، ليعودوا بعد ذلك أدراجهم إلى مدينة المحمدية، التي فبركوا فيها سيناريو مزيفا أدلوا به وقتها لمصالح الأمن بالمحمدية، في محاولة للتهرب من شبهة التورط في هذه القضية.
أين الجثة؟
السؤال الذي أثير مؤخرا بكثير من الإلحاح هو: أين هي جثة الشاب التهامي بناني؟ وإذا كان المتهمون الثلاثة قد اعترفوا بوفاته، فأين تم التخلص من جثته؟ وهل تم التعرف عليها؟ وهل تم دفنها في قبر معلوم؟..
أسئلة طرحناها على مصدر أمني قريب من التحقيق في هذا الملف، فأكد أن “الفرقة الوطنية للشرطة القضائية قامت بالعديد من التحقيقات الميدانية والخبرات التقنية للكشف عن مكان الجثة، وتحديد مستوى وحجم تورط كل واحد من المتهمين الثلاثة في هذه القضية”.
وتابع المسؤول الأمني تصريحه بأن الفرقة الوطنية قامت بمراجعة مصالح الدرك الملكي المختصة ترابيا، في المكان الذي تم التبليغ فيه عن التخلص من الجثة، كما ربطت الاتصال بمركز الطب الشرعي “الرحمة” للتحقق من استقبال هذا المركز لأي جثة في التاريخ المذكور في تصريحات المتهمين الثلاثة.
وأكد المصدر ذاته أن هذه الأبحاث والتحريات خلصت إلى أن “مصالح الدرك الملكي اكتشفت فعلا جثة متحلّلة بالغابة المذكورة في تصريحات المتهمين، وتحديدا بتاريخ 3 أبريل 2007، أي بعد أكثر من أسبوعين تقريبا من تاريخ اختفاء التهامي بناني. وقد تم نقل هذه الجثة إلى مركز الطب الشرعي “الرحمة” بضواحي الدار البيضاء”.
وقد سلمت المسؤولة عن مركز الطب الشرعي محققي الفرقة الوطنية وقتها صورا للجثة ولحالتها ساعة اكتشافها، وهي الصور الفوتوغرافية التي تؤكد محاضر القضية أنها عُرضت على والدة الضحية وشقيقه، اللذين أكدا أنها للضحية التهامي بناني، بسبب تطابق الملابس والحذاء مع ما كان يرتديه الضحية قبيل اختفائه.
الإقرارات نفسها سوف يدلي بها المتهمون الثلاثة بعد عرض صور الجثة عليهم.
لكن السؤال الذي لا زال معلقا: أين هي الجثة، التي تشير محاضر الفرقة الوطنية إلى أن عائلة الضحية والمتهمين الثلاثة تعرفوا على صورها المؤرشفة في مركز الطب الشرعي؟ وهل تم تحصيل عينات من الحمض النووي من تلك الجثة ليتسنى مطابقتها مع البصمات الجينية المستخلصة من والدته وشقيقه؟
يبدو أن طول المدة الفاصلة بين تاريخ اكتشاف الجثة (أبريل 2007) وتاريخ استجلاء حقيقة هذه القضية بشكل قطعي (شتنبر 2019)، لم يساعد المحققين في الاهتداء إلى جثة الضحية وتحديد قبرها بشكل دقيق! هذا ما ترجحه بشكل مبدئي وثائق ومستندات هذا الملف البالغ التعقيد.
فالجثة التي تم اكتشافها في أبريل 2007 كانت في وضعية تحلّل متقدمة، حسب ما جاء في محاضر المعاينة التي أجرتها عناصر الدرك الملكي، وأن وضعيتها حالت دون تشخيص هوية صاحبها، مما جعل المصالح الطبية المختصة تُقرر دفنها في الأماكن المخصصة لمجهولي الهوية، أي الأشخاص الذين يتم اكتشاف جثثهم دون الاهتداء إلى هوياتهم الحقيقية.
وفي تعليق على هذا الموضوع، أكد المصدر الأمني المطلع على سير الأبحاث في هذه القضية أن الفرقة الوطنية للشرطة القضائية انتقلت إلى مقبرة “الرحمة” بغرض تحديد القبر الذي دفنت فيه الجثة، التي يحتمل أنها للضحية التهامي بناني، والتي كانت تحمل الرقم 440 بمركز الطب الشرعي، لكن تعذر إنجاز هذه المهمة لاستحالة واقعية تتمثل في طول المدة منذ تاريخ الدفن، فضلا عن عدم تشخيص وتمييز قبور الجثث الخاصة بمجهولي الهوية.
وأضاف المصدر ذاته أنه توخيا للحقيقة قامت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية باستئذان والدة الضحية التهامي بناني وشقيقه لأخذ عينات من الحمض النووي الخاص بهما بغرض إحالتها على مصالح الدرك الملكي، على أمل مطابقتها مع العينات المأخوذة من الجثة التي تم اكتشافها في أبريل 2007 بواد مرزك، في منطقة تابعة لنفوذ الدرك الملكي.
وقد جاء جواب مختبر التحليلات الجينية، الذي أكد أنه يتعذر تحديد الحمض النووي للجثة، التي تم اكتشافها في سنة 2007، بسبب حالة التحلل والتفسخ الكامل الذي وجدت عليه ساعتها.
إشاعات.. تثير الوجع
من حق والدة الضحية التهامي بناني أن تهتدي إلى قبر نجلها لأنها في حداد ورجاء مفتوحين لما يربو عن خمس عشرة سنة تقريبا. لكن ما يؤجج الألم هو تواتر الإشاعات والأخبار الزائفة التي تزيد من حرقة هذه الأم المكلومة.
ففي الوقت الذي يعترف الأظناء الثلاثة بموت الضحية والتخلص من جثته بتلك الطريقة، تخرج علينا بعض المحتويات الرقمية بإشاعات تزعم بأن الفقيد شوهد في مدينة الحسيمة وفي مناطق أخرى من المغرب. ومثل هذه الأخبار المضللة وإعادة ترويجها على نطاق واسع من طرف بعض “المؤثرين”، فضلا عن الإسراف في تداول نظرية المؤامرة والخيوط الخفية المزعومة في هذا الملف، يزيد من شدّة الوجع ويطيل أمد الحداد.
جدير بالذكر أن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء التي تنظر في هذا الملف، قرّرت تأجيل محاكمة المتهمين الثلاثة إلى غاية جلسة 23 فبراير 2022، وهي الجلسة التي من المنتظر أن تعرف تطورات كثيرة وسجالا قانونيا محتدما بين الدفاع الذي ينوب عن عائلة الضحية، وبين المحامين الذين يؤازرون المتهمين الثلاثة في هذه القضية.