الدكتور أيوب بنجبيلي (باحث في القانون العام )
إذا كانت علاقة الحاكم بالمحكوم في الماضي السحيق تتأسس على الدين والقوة سعيا وراء تحقيق ما يعرف بسر الطاعة، فإن التطورات التي أعقبت نظرية العقد الاجتماعي وظهور مفهوم المواطنة من صميم التزامات متبادلة بين السلطة والمواطن كلها عوامل ساهمت بشكل أو بآخر بجعل الشعب أو الأمة مصدرا للسلطة أو الحكم، سواء في الأنظمة الديمقراطية الرئاسية أو البرلمانية والتي اتخذت من النظام التمثيلي آلية له، يسمح للشعوب بالتدخل في اللعبة السياسية وفي تسيير السلطة عن طريق الإختيار و ليس الإكراه، حيت أن الانتخابات هي رهان الأحزاب السياسية للتداول على السلطة أو في الأنظمة الشمولية التي تراهن على تأسيس شرعيتها بناء على انتخابات حتى ولو كانت صورية، وهكذا اتخذ الانتخاب صوره و أشكاله وأصبح هو التصرف الأول والوحيد الذي يضفي شرعية التمثيلية الديمقراطية كنظام سياسي وبات من الضروري الإعتناء به وتنظيمه بالشكل الذي يسمح له بالاستمرار والتأقلم مع معطيات الحياة السياسية المعاصرة.
والمغرب بخصوصياته السياسية والحضارية والقبلية منذ فجر الاستقلال عرف نقاشا وآراء مختلفة حول الإنتخابات فقبل حكومة التناوب التي قادها المرحوم عبد الرحمان اليوسفي رفعت أحزاب الكتلة مطلب نزاهة الانتخابات، ومع حكومة عبد الإله بن كيران لم يعد من الممكن التمييز بين الأحزاب الوطنية والأحزاب الإدارية بل تقوى عزوف الشباب عن الانتخابات، ومع ما عرف (بالربيع العربي ) انفك الارتباط بالأحزاب السياسية كمدرسة للتأطير، وظهر فاعلون جدد عفويون وغير منظمين في مواقع التواصل الاجتماعي يثيرون التشكيك في الانتخابات ويثمنون العزوف عن صناديق الاقتراع.
ولهذا تدخل ملك البلاد محمد السادس نصره الله، يدق ناقوس الخطر حول الهوة السحيقة بين تمثيلية المؤسسات المنتخبة وبين الشارع والشباب والمجتمع وهو الأمر الذي يقتضي ثورة داخل البنيات الحزبية لتكون ثروة متجددة بالشباب والأطر وليس تركة جامدة معزولة عن نبض المجتمع وقواه الحية وتطوراته العميقة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرقمية.
حيث، لاتزال مضامين الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لتربع جلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه الميامين ترن في أذاننا وأذان السياسيين مفادها تخليق الحقل السياسي معتبرا أنه “…أمام هذا الوضع، فمن حق المواطن أن يتساءل: ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات وتعيين الحكومة والوزراء والولاة والعمال والسفراء والقناصلة إذا كانون هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر؟ فممارسات بعض المسؤولين المنتخبين تدفع عددا من المواطنين وخاصة الشباب، للعزوف عن الانخراط في العمل السياسي، وعن المشاركة في الانتخابات لأنهم بكل بساطة، لا يثقون في الطبقة السياسية، ولأن بعض الفاعلين أفسدوا السياسة ، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل…”
فمن الطبيعي إذن أن يقف الباحث والمثقف والمواطن وقفة مع الذات حول ما حققه المغرب من منجزات، وما يواجهه من تحديات خاصة ما نعيشه اليوم من تراجع ثقة الشارع المغربي في الأحزاب السياسية بشكل ملموس، ويرجح ضعف هذه الثقة في الأحزاب المغربية إلى فقدان النزاهة والانضباط لدى معظمها وعدم الالتزام ببرنامجها الانتخابي بكل صدق ومسؤولية وهو سؤال طرح نفسه في الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش المجيد سنة 2017 معتبرا أنه “.. إذا أصبح ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟..”.
إن المواطن المغربي اليوم يحتاج دون أي شك إلى تنمية متوازنة ومنصفة، تضمن الكرامة للجميع وتوفر الدخل وفرص الشغل، وخاصة للشباب وتساهم في الاطمئنان والاستقرار والاندماج في الحياة المهنية والعائلية والاجتماعية وتعميم التغطية الصحية وتسهيل ولوج الجميع للخدمات الاستشفائية الجيدة في إطار الكرامة الإنسانية كما يحتاجون إلى قضاء عادل وفعال، وإلى إدارة ناجعة، تكون في خدمتهم، وخدمة الصالح العام، وتحفز على الاستثمار، وتدفع بالتنمية بعيدا عن كل أشكال الزبونية والمحسوبية والرشوة والفساد، وهذا ما تطمح إليه المملكة المغربية في انتظار تنزيل نموذج تنموي جديد قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وهذا لن يتأتى بدون أي مجاملة أو تنميق بضرورة تغيير العقليات التي تقف حاجزا أمام تحقيق التقدم والازدهار.
إن غياب برامج سياسية تؤطر المواطن وخبرة ميدانية فاعلة لدى جل الأحزاب للتعامل مع الأزمات الكبيرة أدى إلى فقدان الثقة في أي تحرك حزبي في الوقت الحالي خصوصاً أن البرامج الانتخابية التي على أساسها وقع تشكيل المشهد السياسي الراهن جرى تجاوزها وعدم تطبيقها، سواء لتهاون الأحزاب السياسية وعدم جديتها في تفعيلها أو لاعتبارات أخرى، علاوة على انتصار المصالح الشخصية على حساب مصلحة الوطن، إذ تفيد معطيات “المندوبية السامية للتخطيط” بأن 70 في المئة من الشباب لا يثقون في جدوى العمل السياسي، و5 في المئة يؤمنون بالعمل الحزبي، و1 في المئة فقط يزاولون الفعل السياسي من داخل الهيئات السياسية، بينما يشكل الشباب 40 في المئة من الكتلة الناخبة وهذا راجع إلى أن الأحزاب السياسية لم تستوعب بعد الإشارات القوية للدستور ولم تواكب التوجيهات الملكية التي أولت اهتماماً بالغاً للشباب على جميع الأصعدة، فتأهيل الشباب المغربي وانخراطه الإيجابي والفعال في الحياة الوطنية من خلال بلورة سياسة جديدة مندمجة للشباب تقوم بالأساس على التكوين والتشغيل، قادرة على إيجاد حلول واقعية لمشاكلهم الحقيقية، وخاصة في المناطق القروية والأحياء الهامشية، إذ يعد هذا من أهم التحديات التي يتعين رفعها أكثر من أي وقت مضى باعتبار الشباب محرك للتنمية وليس كعائق أمام تحقيقها عبر منحه ما يستحقه من إمكانيات ووسائل للقيام بدوره كفاعل سياسي حقيقي وليس عنصراً لتأثيث المشهد السياسي خاصة وأن الشباب لا يحظى باهتمام واسع من حيث الحصول على التزكيات للترشيح في الانتخابات، لأن القيادات الحزبية هي الجهة التي تسيطر على تحديد المرشحين للانتخابات وتعتمد في ذلك على الأعيان للظفر بالمقعد الانتخابي، وبالتالي تتحول النخبة السياسية في غياب تمثيلية شبابية إلى قوة اقتراحية ومؤثرة على الحقل السياسي .
حيث، إذا كانت المؤسسة الملكية سارعت الخطى وتفاعلت بشكل سريع مع أحداث الربيع العربي بخطوات استباقية، اعتبرت بمثابة تبني رسمي لمطالب المحتجين، معلنة شعار “الإصلاح في ظل الاستقرار”، بخطاب 9 مارس 2011 الذي رفعت فيه سقف التطلعات حين أعلنت عن أول مراجعة لدستور في عهد الملك محمد السادس، قوامها توسيع هامش الحقوق والحريات، وتقوية الطابع المؤسساتي بالتنصيص على هيئات الحكامة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية في المغرب وربط المسؤولية بالمحاسبة، فإن من بين المشاكل التي تعيق تقدم المغرب هو غياب إرادة سياسية حقيقية مؤتمنة على خدمة الوطن والمواطن، فبقدر ما يحظى به المغرب من مصداقية قاريا ودوليا في كل المجالات، بقدر ما تصدمنا الحصيلة والواقع في بعض المجالات الاجتماعية وبالتالي فعندما تكون تلك النتائج إيجابية تتسابق بعض تلك الأحزاب والطبقة السياسية إلى الواجهة، للإستفادة سياسيا وإعلاميا من تلك المكاسب المحققة خاصة مع اقتراب موسم الاستحقاقات الانتخابية، بل إنهم يجهلون أيضا بأن الشباب واعٍ بموقعه ولم يعد يقبل بتلك التصرفات.
إن التحدي الحقيقي اليوم الذي يعيشه المغرب هو تحدي القيام بمراجعة جماعية وبنقد ذاتي بناء نعيد فيه النظر في المفاهيم والتصورات الموروثة، عبر تنزيل مخرجات النموذج التنموي الجديد فضلا عن الوعي بالمطالب الملحة المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لتمكين المواطنين من المساهمة في خلق الثروة والاستفادة من ثمارها بشكل عادل عبر إرساء نظام حكامة فعال، قائم على تنسيق و التقائية السياسات والبرامج العمومية، مع الحرص على تتبعها وتقييم تنفيذها، وهنا يجب تفعيل التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة والضرب على أيدي كل من سولت له نفسه المس بمصلحة الوطن والمواطن.
وبالتالي فإن الالتزام الحزبي والسياسي الحقيقي، يجب أن يضع المواطن فوق أي اعتبار والتفاني في خدمته والوفاء بالوعود المقدمة إليه، وجعلها فوق المصالح الحزبية والشخصية لاستعادة الثقة بالعملية الانتخابية.