يوسف أقرقاش: أستاذ باحث
الحقوق الطبيعية بالتعريف هي ما ينتمي إلى الإنسان باعتباره ذاتا، أي أنها جزء لا يتجزأ من ذاته، وهي ترتبط أساسا بالحق في الحياة، الذي يستلزم بدوره الحق في الدفاع عن النفس؛ وإذا كان من الصعب الربط، ضمن الحدود الطبيعية للإنسان، بين المِلْكية والحق في الحياة أو الحق في الدفاع عن النفس، فلماذا تُدرج المِلْكية إذن ضمن الحقوق الطبيعية (الذاتية) للإنسان؟
لقد تم إدراج الملكية، عند فلاسفة العقد الاجتماعي، ضمن الحقوق الطبيعية باعتبارها ما يحفظ الحياة؛ فالحياة لا تتحقق إلا بالحصول على ما يحفظها ويضمن استمراريتها من مأكل ومشرب ومأوى. ولأنه لا يمكن الفصل بين الحياة وما يحفظها ترسخ في أذهان الناس أن ما يحفظ الحياة جزءٌ من الحياة نفسها؛ وإذا كانت الحياة حقا طبيعيا، فما يحفظها أيضا حق طبيعي. لكن لما كان من الصعب الفصل بين الحياة وما يحفظها، صار من الصعب أيضا تحديد حجم أو مقدار ما يحفظها ويُؤمنها؛ وإذا صار من المسلم به أن ما يحفظ الحياة جزءٌ من الحياة، فما يُؤَمِّن الحياة أيضا جزءٌ مما يحفظها. وهكذا صار تأمين الحياة أيضا حقا يعادل حقَّ الحياة نفسها.
لقد استبعد هذا الترابط الحاصل بين الحياة وما يحفظها وما يؤمنها أي نقاش بخصوص حقيقة الحيازة، والتي ستتحول لاحقا إلى مِلْكية (حيازة شرعية)، وصار الجدال يخص فقط سُبل الحيازة ومقدار ما يمكن حيازته. ورغم أن مقدار الحيازة كثيرا ما يحرج الناس، خاصة حين يكون التفاوت بينهم صارخا، فهو الآخر لم يجد إلى التقنين سبيلا؛ لأنه لا أحد يعرف كم سيعيش حتى يعرف مقدار ما سيؤمنه. ولا تتوقف مسألة تأمين الحياة عند هذا الحد، أي الربط فقط بين ما يحفظ الحياة وما يؤمنها، بل سيتولد عن ذلك التفكيرُ في تأمين التأمين، حيث أن الإنسان لا يمكن أن يأتمن على ما حازَهُ لحفظ الحياة، دون أن يحوز أيضا تطمينات على ما أَمَّنَهُ لنفسه؛ وهو ما يستدعي الحاجة إلى وضع قواعد أو مبادئ أو تشريعات، يجبر بها الآخرين على الاعتراف بما حازه وعدم منازعته فيه. ولو تتبّعنا سيرورة توالد الانطباعات الخاصة بالحيازة في ذهن الإنسان، لتبين أن الربط بين الحياة وحفظها وتأمينها وتأمين تأمينها، مجرد انطباعات ترسخت في أذهان الناس؛ وهذا الربط تمليه في الواقع الغريزة وحب البقاء، ويوظف القيم الثقافية (الأعراف أو القوانين) لتطمين سبل البقاء؛ وفرويد يعبر عن ذلك بصريح العبارة، حين يقول في مؤلفه قلق الحضارة إن الملكية مجرد وهم.
لكن حتى إذا وعينا بوَهَن هذا الترابط، واستطعنا الفصل بين الحياة ووسائل حفظها، فهذا لا يجدي نفعا؛ لقد صارت الملكية في حياة الإنسان المتمدن عقيدة راسخة، لا يمكن تغييرها أو تفكيكها إلا بتغيير ذهنية الإنسان وتفكيكها، وهذا في الواقع من المستحيلات. غير أن الاعتراف بمدى تجذر فكرة الملكية في حياة الإنسان لا يعني التسليم بجملة القواعد أو التشريعات التي اختلقتها الجماعات المدنية للحفاظ على الملكية وتأمينها. لقد كان الأصل في فعل الحيازة هو مبدأ حفظ الحياة، وحتى تأمينها، غير أن هذا الأمر لا يخص الإنسان فقط، وإنما يخص الحيوان أيضا؛ لكن مع فارق يتمثل في كون هذا الأخير، بخلاف الإنسان، لا يحوز إلا ما يستطيع الدفاع عنه بنفسه أو في إطار تكتله مع بني جنسه؛ أي أن منطق الحيازة عند الحيوان محكوم بقوانين طبيعية، فالحيوان يعيش في بيئته الطبيعية، ولا يحوز إلا ما استطاع جلبه إلى مأواه، وإذا رحل عنه لا ينقل معه أي شيء سبق وأن حازه.
على عكس الحيوان، فقد أوجد الإنسان منظومة قيمية (الحلال والحرام) تسمح له بحيازة كل ما يمكن أن تمتد إليه يده، ومنظومة تشريعية (المسموح والممنوع) تسمح له بحيازة ما يريد في أي مكان وفي أي زمان يشاء. ويعني هذا أن الملكية عند الإنسان قد انفصلت عن مبدأ حفظ الحياة وتأمينها، وصارت هي الغاية نفسها؛ ولعل هذا ما يفسر انتقال الإنسان من ممارسة أنشطة القنص والزراعة إلى ممارسة أنشطة التجارة والاحتكار والمضاربة، وهي الأنشطة التي لا تكتمل إلا باختلاق السلطة باعتبارها الحق المطلق لتأمين كل ما تقع عليه أيدينا.