د. خديجة الكور
تعتبر الثقافة أداة أساسية لتثمين الرأسمال البشري، وتوطيد الارتباط والانسجام الاجتماعي،وتقوية روح التضامن ومجالات النماء.
كما تشكِّل الثقافة رافعة أساسية لتغذية المواطنة الإيجابية والفعالة والمجتمع المتنوع، وتثمين ثراء وغنى هوية الوطن وعمقه التاريخي، وضمان إشعاعه الإقليمي والدولي،ومواكبة رهاناته الجيو استراتيجية من خلال دعم عرض ثقافي وطني قائم على التعددية والتعايش، والربط بين العمق التاريخي والحداثة والابتكار.
واعتباراً لأدوار الثقافة وأهميتها في دينامية التغيير داخل المجتمع، لابد من التوقف في سياق بلورة البرنامج الحكومي على مضامين اقتراحات أحزاب الأغلبية ذات الصلة بالشأن الثقافي.
وقد مكّنت قراءة البرامج الانتخابية لأحزاب الأغلبية، ذات الصلة بالاستحقاقات التشريعية لسنة 2021 ، من الوقوف على الاستنتاجات التالية :
اختلفت مقاربة أحزاب الأغلبية لأسئلة الثقافة بين مَن صنّف الرهان الثقافي ضمن الالتزام المتعلق بإحداث إدارة مسؤولة في خدمة الصالح العام، وركّز أساسا على تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية كوسيلة لتحقيق العدالة الثقافية واللغوية (التجمع الوطني للأحرار)؛ وبين مَن أدرجه ضمن ورش تعزيز منظومة القيم وروح الانتماء للوطن، معتبرا التنمية الثقافية كدعامة للمشروع المجتمعي وأداة لتحقيق التنمية الشاملة، والنهوض بالإنسان المغربي وتحرير طاقاته المتشبعة بالهوية الوطنية (حزب الاستقلال)، وبين من اعتبر صيانة الأصالة وقيم الأمة المغربية كدعامة لمغرب القرن 21 الذي يجب أن يكون قويا ومتضامنا،مع التأكيد على أن بلوغ الطموحات التنموية لا يمكن أن يمر إلا عبر كيمياء الأصالة والمعاصرة (حزب الأصالة والمعاصرة).
وقد تضمنت برامج أحزاب الأغلبية عدة إجراءات ترمي لتطوير القطاع الثقافي، وتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية يمكن إجمالها فيما يلي :
إحداث صندوق مواكبة ترسيم الأمازيغية تكُون موارده من ميزانية الدولة؛ وستصل إلى 1 مليار درهم ابتداء من سنة 2025 ، وتعزيز حكامة الصندوق بإحداث لجنة استشارية تضم ممثلي القطاعات الوزارية المعنية، وشخصيات ذات إلمام بالقضية الأمازيغية، ولجان استشارية جهوية، يرأسها الولاة، وتضم في عضويتها رؤساء الجهات، ورؤساء المصالح الخارجية على المستوى الجهوي، بهدف تعزيز العدالة الثقافية واللغوية؛
إحداث استراتيجية وطنية تستوعب الإنسية المغربية بمختلف روافدها المتنوعة والمتجانسة والمتكاملة: العربية والأمازيغية والإفريقية والمتوسطية، هدفها تحصين الهوية والوحدة الوطنية، وتقوية روابط الإنتماء للوطن، وتجذير روح المواطنة، في إطار غِنى التنوُّع الثقافي والتعدد اللغوي، وحماية المجتمع من النزاعات القبلية وخطابات التفرقة، ومن بعض المحاولات البائسة التي تستهدف ثوابت وقيم الأمة المغربية؛
إصلاح مؤسساتي لقطاع الثقافة، مع تحديث آليات ومعايير الدعم والترويج للمنتوج الثقافي المغربي (دعم الكتاب، السينما، الأغنية المغربية، المسرح، المهرجانات…)؛
التنزيل الفعلي للأمازيغية كلغة رسمية للمملكة، والعمل على تجميع مختلف تعابير الثقافة الأمازيغية، بما في ذلك النهوض بالإبداع الفني الأمازيغي؛
وضع استراتيجية وطنية لتطوير الصناعة الثقافية بالمغرب بمجالاتها الإبداعية المختلفة؛
العمل على تحصين مكانة اللغة العربية، وتجديد طرق تعلّمها في إطار مشروع مستقبلي ذي أبعاد ثقافية وعلمية معاصرة، والانفتاح على أكثر من لغة أجنبية واحدة؛
العمل على حضور الكتاب ومشاركته في المناسبات الثقافية العامة داخل المغرب وخارجه؛
إحياء مفهوم “الجائزة التقديرية” السنوية في ترسيخ قيمة الاعتراف بالشخصية الثقافية الوطنية، وتوعية الأجيال بالاستمرارية الثقافية؛
إحداث مرصد علمي لتطوير البحث والتوثيق في مجال التراث الموسيقي المغربي؛
تطوير المهن الموسيقية وتشجيع الاستثمارات بها لإحداث فرص الشغل كفيلة بإنعاش القطاع الموسيقي؛
وضْع استراتيجية للتكوين والتكوين المستمر في الفنون المسرحية؛
العمل على الارتقاء بالمجال السينمائي، وذلك من خلال:
الإرتقاء بالمضمون السينمائي عبر انفتاح المخرجين والمنتجين على الإبداع الأدبي المغربي؛ مع متطلبات الارتقاء الفني الجمالي والتكنولوجي؛
الترويج السينمائي عبر البحث عن أسواق داخلية (القاعات السينمائية والمنصات الرقمية الوطنية…) وخارجية (المهرجانات الدولية ومنصات التوزيع الدولية…)، بما يشمل كذلك المؤسسات التعليمية ،والفضاءات الثقافية والتنشيطية، على نحو يشيع التربية السينمائية في الأجيال الناشئة؛
تكثيف الاهتمام بالقاعات السينمائية، بما يستحقه بعضها من ترميم وتجهيز ورقمنة، مع انفتاحها على أنشطة ثقافية فنية مختلفة، عدا عرض الأشرطة السينمائية؛
إعطاء الأهمية للتكوين في مختلف المهن السينمائية عبر رؤية شمولية (ثقافية، فنية، مهاراتية)؛
إحداث وتطوير متاحف رقمية (وطنية وجهوية ومحلية متوافقة مع الخصوصيات الجهوية ومع الإمكانيات التي تتيحها المدن الذكية والثقافة الحضرية).
وقد تضمنت وثيقة النموذج التنموي تشخيصا لأهم عوائق النهوض بالثقافة ببلادنا، التي تتمثل أساسا في عدم وضوح المحيط، والافتقار إلى الرؤية، وضعف الميزانية والإشعاع الدولي، وهشاشة البنيات التحتية وسوء تدبيرها، وغياب النقاش العمومي حول أسئلة الثقافة والهوية والقيم، وضعف آليات الوساطة والبرمجة والتنشيط والتسويق.
وقد تضمنت وثيقة النموذج التنموي عدة اقتراحات تستحق التوقف عندها بمناسبة بلورة البرنامج الحكومي :
الرفع من ميزانية الثقافة لتصل إلى 1% على الأقل من الناتج الداخلي الخام (حاليا حوالي 1%O.)
زيادة عدد فرص الشغل في مجال الصناعات الإبداعية بالضعف، أو حتى بثلاثة أضعاف (حاليا 40.000 وظيفة)، مع الحرص على تنويعها لتشمل أيضا عروضا ذات محتويات رقمية.
بلوغ معدل قراءات كتابين للفرد الواحد سنويا (حاليا 0.4)
وضع هيكل سياسي وقانوني ملائم للدفع بعجلة التنمية من خلال الثقافة.
جعل المجال الترابي الوحدة الأساسية للسياسات الثقافية من خلال فضاءات ثقافية سهلة الولوج.
إدماج الثقافة في التعليم منذ الطفولة.
تطوير السينما : رافعة القوة الناعمة.
تطوير وتجويد الإعلام وسيادة الصورة والحفاظ على التراث .
حماية التراث والارتقاء به.
تطوير مشروع منصة جامعة لمنصات المحتويات الثقافية والإعلامية.
إن الاختيارات التنموية مهما بلغت دقتها ونسبة صوابها، لا يمكن أن تحقق التغيير والتطور المنشود دون إحداث ثورة في العقليات والسلوكيات، تضمن دعم المواطَنة الإيجابية والفاعلة، وترسيخ قيم حب الوطن والتفاني في خدمته والاعتزاز بعمقه التاريخي والثقة في حاضر الوطن ومستقبله، وفي قدرة المؤسسات على كسب رهانات الديمقراطية والتنمية والتحديث،وترسيخ قيم التضامن، والقدرة على التنفيذ والابتكار والإبداع، وتحرير الطاقات.
وكلها رهانات ثقافية وقيمية ترتبط بسياسات بناء وصناعة الإنسان، وهي من الصناعات الأكثر تعقيدا التي تتطلب الاعتماد على الحنكة والاحترافية والتجربة.
فاعلة سياسية وحقوقية ومفتشة عامة بوزارة الثقافة سابقا